النظارة السوداء والوشاح الأحمر

                                          

                     روعة صلاح طويلة

النظارة السوداء والوشاح الأحمر

بدأتِ الحكايةُ في بَلْدة صغيرة جميلةٍ، أهلُها طيِّبُونَ يحبُّ الخَيْرَ بعضُهم لبعضٍ. في هذه البلدة تدور أحداثُ حكايتنا مع راما وسامي وماهر ومُنى.
راما بنتُ هذه البلدة، وسامي ابنُ الجيران.
كانا في الطفولة فراشَتَين تطيران من مكانٍ إلى آخَرَ، يقطفان الورودَ والأزهارَ من الحديقة، هُما صديقانِ يَلْعبانِ يأكُلانِ يَدْرُسان معًا.
حياتُهما جميلةٌ يُغَطِّيها الحبُّ والحنانُ والطفولةُ البريئة.
مرّتِ الأيامُ والسِّنُونَ، وصارَ الطِّفْلانِ شابَّيْنِ، أحلامُهما كبيرةٌ، يُشِعُّ مِنْ وَجْهَيْهِما عُنفوانُ الشّبابِ والنّشاط والحيويّة.
كَبُرَ الحبُّ بينَهُما وبدأ ينبض في قلوبهما، وكبرت الأحلامُ.
درسَتْ راما في كليّة الزراعة، ودرس سامي في كليّة الطيران، حلما بهٰذْينِ الفَرْعَيْن منذُ الصغرِ؛ وتحقَّقَ الحلمُ.
وبقي الحلمُ الأجمل والأكبرُ هو أن يخطب سامي راما. خَطَبَها وكانت الفرحةُ تملأ قلوبَ جميع مَنْ يعرفُهُما. أَمْضَيا أيامًا رائعةً، كلُّ شيءٍ حَوْلَهُما جميلٌ، وتلوّنَ بأجملِ الألوانِ.
اقتربَ موعد الزفاف، وراما تحضِّر له.
سامي سيعودُ من موقع إقامتِه لدراسة الطيران، ولم يستطِعْ أنْ يعودَ قبل يوم الزّفاف بسبب الامتحان. وهو في الطائرة حدثت الفاجعةُ الكبيرةُ، حَدَثَ خللٌ فيها، ولم يستطع كابتنُ الطائرة أنْ يُسَيْطرَ عليها. مات الجميعُ، ومات سامي، وذَهَب الحلمُ الجميل. كان يصرخُ: راما حبيبتي، أُحبُّكِ.
كلُّ شيءٍ راح مع سامي؛ الحلمُ الأملُ الحياةُ السعادةُ ...
تلقّت راما الخَبَرَ وهي تهيِّئُ نَفْسَها للزِّفاف، وكانت تقيسُ فستان الزِّفاف عند الخيّاط، وهو يضع اللَّمَساتِ الأخيرةَ على الفستان قبل الحَفْلِ بساعاتٍ.
كان وَقْعُ الخبرِ على راما كالصّاعقة، وعلى قَلْبِها كسكِّين تقطّعَ جدارَ هٰذا القلبِ الّذي تربَّىٰ على حُبِّ سامي، ولم يَبْقَ لراما من سامي سوى الألمِ والذِّكرياتِ والنّظّارةِ السّوداءِ.
كانتِ النّظارة السوداءُ آخَرَ شيءٍ أعطاها إياهُ؛ خوفًا علَيْها من أشعَّة الشمس. وقال: أريدُك أنْ تضعيها على عَيْنَيك؛ لأنّي لا أحبُّ أنْ يرىٰ أحدٌ هاتين العينَيْن الجميلَتَين الساحرتين غيري، يا حبيبتي.
كلُّ مَن كان يرى عُيونَ راما يقولُ فيهما الشِّعْرَ والغزلَ ...
منذُ وفاةِ سامي، وراما لم تخْلَعْ نظّارَتَها السوداءَ، وهٰذا ما كان يلفت نَظَرَ الآخَرينَ إليها. حتّى في المساء تضعُها وكأنّها تقولُ لنفسها وللآخَرينَ: إنّ سامي لم يمُتْ، وهي تراهُ بهذه النّظّارة.
هو دومًا مَعَها، لا يفارِقُ عَيْنَيْها ولا قَلْبَها ولا وِجْدانَها ألبتةَ.
****
وفي الزَّمانِ والمكانِ نَفْسِهما حكايةٌ أخرى، أحداثُها تشبه أحداثَ حكاية راما وسامي، ولكنْ في الحيِّ المجاورِ، وهي قصةُ مُنى وماهر.
كانا وَلَدَيْ عَمٍّ بَسيطَيْنِ جدًّا، رَقيقَي المشاعرِ، يُحبّانِ عَمَلَ الخيرِ، ويُحبّانِ الآخَرِينَ، وُلِدَ بينَهما حبٌ وعشقٌ كَبيرانِ.
قلباهُما واحدٌ، عشقا الحياةَ بكُلِّ ألوانِها.
منى فتاةٌ شفّافة، كلُّها حيويّةٌ ونشاطٌ، سريعةُ الحركة عندما تمشي، ترقص تعزف سمفونيّةً بجسدها النحيلِ الرّقيقِ المتناغم. أمّا ماهرٌ، فيَعْشق ويحبُّ كلَّ شيءٍ فيها.
ماهرٌ يدرسُ التِّجارةَ والاقتصادَ، ومنى تدرس الفنونَ الجميلةَ، وكانت بارعةً في حياكة الوِشاح منَ الحريرِ.
قرَّر ماهرٌ خِطْبةَ منى، وكانتِ الفرحةُ تعمُّ المنزلَ. أخيرًا سيتحقّقُ الحلمُ الجميلُ.
أَمْضَيا الأيامَ والأشهُر وهُما يحضِّرانِ المنزلَ الّذي سيَعيشانِ فيه: غرفةَ الأطفالِ، غرفَتَهما الّتي ستكون شاهدةً على حُبِّهما. كلُّ شيءٍ في المنزل اختاراهُ معًا. انتهىٰ المنزلُ، كلُّ شيءٍ فيه مِنْ لَمَساتِهما الرّقيقةِ كحُبِّهما الرقيقِ حتّى وَصَلا إلى يَوْمِ شراء ثَوْب الزِّفاف. كانت منى قد حاكت لماهرٍ وِشاحًا أَحْمَرَ اللَّوْنِ من الحريرِ، انتَهَت من حياكته يَوْمَ شراءِ فُستان الزِّفاف.
قالَتْ له: سأَضَعُه أنا على كتفَيْكَ.
مُنى تُحِبُّ كتِفَي ماهرٍ العريضَتَيْنِ، وتُحبُّ حينما تُلْقي برأسها على كَتِفَيْه لتَشْعُرَ بنَبْضِ قلبِه وحنانِ ذِراعَيْه.
وهُما في الطريق إلىٰ الخيّاط لإكمال فُستان الزِّفاف، قالت منى: لن أتأخّرَ عليك يا حبيبي.
انتَظَرَ ماهرٌ مُنى في السيّارة، وهو يحلم بالفستان، ويقول في قَرارَةِ نَفْسِه: إنّ الفستانَ سيكونُ أجملَ فستانٍ في العالم؛ لأنّ منى سترتديه، وهو ينظر ويترقّب عَوْدَةَ منى بفارغ الصبر، ويراها تخرج من عند الخياط، وتضحك له، والفرحةُ في عينَيْها، وتحمل في يدها فستانَ الزِّفاف، وهو ينظر إلَيْها نظرةَ العاشق الولهانِ، ولم تَنْتَبِهْ ووقعتِ الفاجعةُ الكبرىٰ، وتوقّفَ الوقتُ والزّمانُ في عَيْنَي ماهرٍ؛ مُنى لم تنتبه لسيارة مسرعة وداسَتْها، ماهرٌ يصرخ: حبيبتي منى، وركض إليها وهو يبكي ويتألّم، وكأنّ روحَه خرجت من جسده، ويصرخ: منى، والدِّماءُ تسيلُ من جسدها على فستانها الأبيضِ.
آهِ آهِ آه ... من الألم والحزن والحسرة ... آهِ، ماتَ قلبُ ماهرٍ مع موت مُنى، ماتَتِ الأحلامُ كُلُّها، ما هٰذه الفاجعةُ، وما هٰذا القدرُ، هل سوف تقفُ الحياةُ أم ستستمِرُّ.
******
بَعْدَ وفاةِ مُنى، كان ماهرٌ يَذْهَبُ كُلَّ يومٍ من أوّلِ الشهرِ إلى زيارة قَبْرِ منى، ويأخُذ لها الورودَ الَّتي تُحِبُّ، ويحكي لها كلَّ شيءٍ حصل معه، وكأنّها لم تَمُتْ. هكذا القلبُ الّذي أحَبَّ بصدقٍ.
وكانت راما كذلك تذهبُ أوّلَ يومٍ من كلِّ شهرٍ إلى زيارة سامي الحبيبِ القريبِ، رَغْمَ بُعْدِ جَسَدِه عنها، ولكنْ هُوَ في قلب راما.
وكانت تحكي له كلَّ شيء يحصلُ معها.
******
بَعْدَ مُضِيِّ عدّة سنوات، وعلى بابِ المقبرة والمطرُ يهطل بغزارة، وراما تنتظرُ سيّارةً لتوصلَها إلى منزلها؛ يراها ماهرٌ وهو يقودُ سيّارَتَه، يقف أمامَها ويسأَلُها: هل أوصلُكِ يا آنستي، المطرُ يهطل بغزارة، لن تجدي سيّارةً، اركَبِي.
راما: شكرًا لك، وركبت معَهُ، وهُما في الطريقِ تعرّفَ أَحَدُهما إلى الآخَرِ، ثُمَّ قالَ لها: خُذي هذا المنديلَ، وامْسَحي نظّارَتَك المبلَّلةَ.
وفي تلك اللَّحْظةِ شعرت وكأنّهُ يأخُذ قَلْبَها من جسدها، عادتِ الذِّكْرياتُ كأنّها شريطٌ يمرُّ على ذاكرتها بكلِّ التّفاصيلِ، ففزعت وقالت: أَنْزِلْني هنا، نَظَرَ إلَيْها باستغراب شديد.
ماهرٌ: هل أزعَجْتُك بشيءٍ ؟
راما: لا، وَأَوَدُّ  النّزولَ هنا.
ماهرٌ: المطرٌ غَزيرٌ، أُوصِلُك إلى حيثُ تُريدينَ.
راما: أرجوكَ أن تقفَ هنا. نَزلَتْ منَ السيّارة وهي تشعرُ في نفسها أنّ الزّمانَ توقّفَ من جديد.
مضتِ الأيّامُ، وكان الموقفُ لا يغادِرُ تفكيرَ ماهرٍ؛ ما السَّبَبُ الّذي أزعَجَ هذه الفتاةَ، ولِمَ طلبتِ النزولَ بهذه الطريقة الغريبة. وكان يقولُ في نفسه: لو أَلْتَقي بها مرّةً أُخرى ...
وجاء أوّلُ الشَّهْرِ
راما تضعُ الوردَ الجُورِيَّ الأحمرَ على قَبْرِ سامي، جاء ماهر ...
ماهرٌ: إنِّي أعتذرُ لو أزعجتُكِ المرّةَ الماضيةَ بشيء.
راما: لا عليكَ.
ماهرٌ: أراكِ هنا؟!
راما التَزَمَتِ الصمتَ، وعندما رآها صامتةً قال في نفسه: لِمَ هي هكذا، ودَّعَها وذَهَب وهو يفكِّر ويفكِّر بصَمْتِها الغريبِ.
فنظرَتْ إلَيْه من بعيد، ووجدت الوِشاحَ الأحمرَ على الأرضِ، ذهبَتْ، أخذَتْهُ، ركضَتْ إلَيْه وقالت: لقد وَقَعَ منك. التفَتَ إليها وقال: ما هو؟ فَوَجَد بِيَدِها الوشاحَ الأحمرَ.
نَظَرَ إليها، وأخذ الوِشاحَ منها بطريقة غريبة والغضبُ يشعُّ من عَيْنَيه، وفي هذه اللَّحْظة ...
راما: عُذْرًا، وَقَع منكَ دُوَن أن تشعُرَ.
ماهرٌ: وهو غاضبٌ ونظراتٌ غريبةٌ تشعُّ من عَيْنَيه: لا عليكِ، عذرًا منكِ
وذَهَبَ كلُّ واحدٍ منهُما في طريقٍ. وأثار تصرُّفُه هٰذا فُضولَ راما، لِمَ تصرّفَ معها هكذا.
طوالَ الوقت وهي تفكِّرُ برَدَّة فِعْلِه عليها، وهو كذٰلك، وكان الاثنانِ ينتظران قُدومَ أوّلِ الشهرِ بفارغ الصَّبْرِ، وكانا يقولان: هل سنلْتَقي مرّةً أُخرى.
جاءَ الشَّهْرُ، وكلُّ واحدٍ منهما متلهّفٌ للثّاني أكثَرَ، كانت خطواتهما مسرعةً متلهِّفةً للآخر، وصلا قَبْلَ الموعدِ الذي كانا مُعْتادَيْن عليه بساعة، وعلى باب المقبرة ...
ماهرٌ: أعتذرُ منكِ.
راما: لا عليكَ، أنا وأنتَ متشابهانِ في الموقف نَفْسِه، عندما تبلّلَتْ نظارتي. وابتَسم الاثنانِ ...
ماهرٌ: أُرافِقُكِ؟
راما: نَعَم، وسارا معًا.
ماهرٌ: مَنْ تَزورينَ هُنا؟
راما: وأَنْتَ مَنْ تزورُ هُنا؟
ماهرٌ: أَثَرْتي فُضولي.
راما: وأنتَ كذٰلك، تصرُّفُك معي أثارَ في داخلي أسئلةً كثيرةً.
أكْمَلا طريقَهما، وعلى قَبْرِ سامي تضعُ الورودَ.
ماهرٌ: مَنْ هو سامي؟
راما تُجيب وهي ترتجفُ: حَبيبي؛ وحَكَتْ له الحكايةَ. استمَعَ والدُّموعُ تملأ عينَيْه، وعادت به الذِّكرياتُ إلى منى حبيبَتِه.
ماهرٌ: حكايتُك تُشبه حكايتي. يا لَلأقدارِ تَنْسج حكاياتٍ وقصصًا، مَنْ قال: إنّهُ في نفس الزمان والمكان يوجد قلبٌ انكسر مثلَ قلبي، وبَكَى الاثنانِ بُكاءً شديدًا ارتجفَ له المكانُ.
راما: لهٰذا لا أخلعُ النّظارةَ؛ لأنّها آخِرُ شيءٍ من سامي.
ماهرٌ: وأنا أيضًا، الوشاحُ آخِرُ شيءٍ من منى.
ثُم سارا معًا، وتشابهتِ الأقدارُ والألم.
مَضَتِ الأشهرُ، وكانا يلتَقيانِ على باب المقبرة، وهما يتبادلانِ السَّلامَ فقط، وكان الحبُّ يكبُر ويزداد بينَهُما.
وبدأ يمضي إحساسُ الغربة والخصام مع الدنيا الّذي طال، هل آنَ الأوانُ أن يندملَ الجرحُ بعد مرورِ الزّمان؟!
ماهرٌ كان يسألُ نَفْسَه: كيف عيون راما؟ ماذا تُخفي النظارةُ بَعْدُ مِنْ أسرارٍ؟
وعلى باب المقبرة التَقَيا ...
ماهرٌ يحملُ الوردَ الأحمرَ
راما تحمل الوردَ الأبيض، وكأنّهُما على موعد، ابتَسما ابتسامةً رقيقةً، طالما اشتاقَتْ هذه الشفاهُ إلىٰ الابتسامة ...
وَضَع ماهرٌ الورودَ على قبرِ سامي، ووضعت راما الورودَ على قَبْرِ منى.
وفي اللَّحْظة الأخيرة
ماهرٌ: أشتاقُ لرؤية عينَيْكِ. ارتجفت راما وقلبُها ينبض وينبض، نَظَرَتْ إلَيْه ثُمّ ركضت من أمامِه، لا تعرف السّبَبَ أهو خوفٌ أو حبٌّ أو خوفٌ من خيانة الحبيبِ سامي لو أحبّتْ من جديد. شعورٌ صعب ما بين الماضي والحاضرِ، ما بين قلبِها وقلبِ سامي وقلبِ ماهر ...
رَكَضَ ماهرٌ وصَرَخَ بأعلى صوتِه: توقَّفي، وهي متردِّدةٌ تقف أو لا ...
أسرَعَ وأوقَفَها وأمسَكَ يدَها، ثُمّ نَظَر إليها بصمتٍ ... توقّفَت الدنيا والزمان هُنَيْهَةً ...
اقتَرَب منها أكثَرَ، ووَضَع الوشاحَ الأحمرَ على كتفَيْها، ابتَسم ونَظَر إلَيْها وقالَ بحُبٍّ وشَجَنٍ وحنان: أَما آنَ الأوانُ أن تخلَعي النّظارةَ؟
وفي صمتٍ شديد يدور حولهما ... وضعت يدَها على النظارة، وخلَعَتْ نظّارَتَها عن عينَيْها الساحرتَيْن، وضَعَتْها في جَيْب ماهرٍ. نَظَر إلَيْها بحُبٍّ وحلم، وضمّها على صدرِه ...
التَحَم الجسدُ مع الروح، واندمل جُرح السنينَ، يا لَلأقدارِ.
مضَتِ السّنواتُ وراما وماهرٌ على العَهْدِ يزورونَ مُنى وساميًا. أنْجَبا طفلَيْن منى وساميًا، وبقيتِ الحكايةُ تُحكى ...
وبعد مرورِ السنينَ، وضع الأحفادُ النّظارةَ السوداء والوشاحَ الأحمر على قبرِ ماهرٍ وراما.
زُوروا قَبْرَهما ستجدونَ النّظّارةَ والوشاح.
مع حُبِّي
روعة صلاح طويلة

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1062 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع