
ذو النورين ناصري زاده
الانتماء بين النسب والسلوك: قراءة نقدية في الادّعاء الناصري
إنّ من يتأمل التاريخ الاجتماعي لعشيرة البو ناصر، ويستقرئ سلوكها الجمعي في تكريت وما حولها، سيدرك أنّ الانتماء لم يُبنى على مجرد رابطة الدم، بل على أرومة أخلاقية عميقة، توارثها الأبناء من الآباء كما تُتناقل الوصايا الثقيلة: نبل في الموقف، صفاء في النيّة، صلابة في الشدائد، أنفة لا تُساوم، ووفاء لا ينثني.
لقد شكّل هذا النسيج الاجتماعي قاعدة صلبة لمعايير الانتماء، وميزانًا يُفصّل بين الأصيل والدخيل، والجدير بالميراث وبين المتدثر باسمه دون حقّ. ففي ذاكرة البو ناصر العرفية، لم يُعرف الرجل بما يقول عن نفسه، بل بما يشهد به فعله عند النوائب، وعند الفزعة، وعند ساعة الامتحان التي تُظهر المعادن. وهكذا، صار القول المأثور بين أبناء العشيرة:
(الأصيل يُختبر مرة واحدة، والموقف يكشف ما تخفيه الأقوال).
لقد جبل أبناء البو ناصر على أعراف لا تساكن الضعف، ولا ترضى بالمداهنة، ولا ترى في التبعية فضيلة، بل تعدّها نقصًا في المروءة وخللًا في الميزان الاجتماعي. فالكرامة كانت أصلًا لا فرعًا، والاستقلال خُلُقًا لا شعارًا، والوفاء بالعهد حدًّا فاصلاً بين من يُحسب ومن يُستبعد. وهكذا، صار معيار الانتماء الحقيقي مزيجًا من الدم، الطباع، والفعل المستمر، وليس مجرد بطاقة هوية أو ورقة نسب.
فالادّعاء الفارغ بالانتماء، حين يكون منفصلًا عن السلوك، يشوه معنى النسب ويرهن اسمه بالوهم، ومهما امتلأت خزائن النسب بوثائق وأختام، فإن الأصل يُعرف من فعله،لا من فعله .
يقول العارفون: (الدم يدلّ، لكن الفعل يحكم)،
وكم من مدّعٍ حمل الاسم، فلم يُحمل له من خصال العشيرة إلا ظلاله المشوّهة.
إنّ الأرومة الناصرية التي تشكّلت عبر الأجيال، لم تعترف أبدًا بالازدواجية، ولا بالتلوّن، ولا بالانتهازية، بل كانت تعلي من قيمة الصدق، الصلابة، وضوح الوجه، نقاء اليد، وفعل الخير بلا شهرة. فالأصيل هو من يستند إلى هذه المعايير حتى في أصعب اللحظات، ويثبت عليها في الاختبارات الكبرى، كما توارث الآباء عن الأجداد، في مثل مأثور بينهم: (من لم يصن اسمه بسلوكه، لا يحق له أن ينتسب إليه).
والانتماء، في هذا السياق، ليس ما يُقال، بل ما يُعاش؛ وليس ما يُسجّل في الوثائق، بل ما يُسطّر في المواقف. فمَن غاب عنه الوفاء، أو انحرف به ضعف الموقف، أو لجأ إلى التبعية، أو جعل المصلحة فوق الكرامة، فقد خان جوهر الانتماء، ومهما كان اسمه على شجرة النسب، فإن الفعل وحده يكشف الأصيل من الدخيل.
وليس النقد هنا تشهيرًا، بل تنبيهًا أخلاقيًا واجتماعيًا، لإعادة الاعتبار للمعايير التي صاغتها التجربة الجماعية للعشيرة عبر القرون. فالانتماء الذي لا يحميه الفعل، يصبح مجرد شعار جوفاء، والاسم يتحول إلى عبء لا شرف له، كما يقول العرف: (الاسم بلا سلوك كالبيت بلا أساس).
وفي نفس الوقت، يُظهر هذا النقد مدى الأصالة والنبل والكرامة التي ما تزال حية في الأرومة الناصرية، فالذاكرة العرفية للعشيرة تشهد بأن الكرامة لا تُساوم، والوفاء لا يُباع، والأنفة لا تُنكسر، والصدق في القول والفعل هو الذي يصنع الفخر الحقيقي. وهكذا، صار الحفاظ على هذه القيم واجبًا، ليس على الفرد فقط، بل على الجماعة التي تُدرك أن الانتماء حقًا فعل مستمر، وميزان لا يُزوَّر، ووصية لا تُهمل.
إنّ حماية الانتماء من التشويه، لا تكون بتوسيع دائرة الادعاء اعتباطًا، بل بتشديد شروطه القيمية، وتأكيد ضرورة توافق الاسم مع الفعل، والوراثة مع السلوك، والدم مع الموقف. فالعشيرة التي لا تحرس معاييرها الأخلاقية، تتحوّل من كيان حيّ إلى عنوان مستهلك، ومن ميراث حقيقي إلى اسم جوفاء مظللة بالزيف.
وفي الختام، فإنّ الرسالة الأخلاقية واضحة: الانتماء ليس مجرد صفة تُكتب أو تُقال، بل خُلُق يُثبت في المواقف، ونبل يُمارس في الحياة اليومية، ووفاء يبرز عند الامتحان، وأصالة تُعرَف في صميم السلوك. ومن لم تُفصح أفعاله عن نقاء الأصل، فلن تُنقذه كثرة الادعاء، لأن الدم النبيل وحده لا يكفي، والفعل هو الذي يرفع الاسم ويُكرمه.

1061 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع