المدرسة الاثارية العراقية وتوجهها الوطني

                                       

أ.د.إبراهيم خليل العلاف
 استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل

 

المدرسة الاثارية العراقية وتوجهها الوطني

يعلم القاصي والداني أن آثار العراق، منذ أواخر القرن الثامن عشر،وأوائل القرن التاسع عشر، تعرضت إلى عمليات نهب وسلب واسعة قامت بها البعثات التنقيبية الأجنبية وخاصة البريطانية والفرنسية والأمريكية، هذه البعثات التي وجدت طريقها إلى مدن العراق وقصباته عندما كان العراق خاضعا للسيطرة العثمانية ومن بعد ذلك للاحتلال البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، لذلك ليس عجبا إذا ما وجدنا إن متاحف لندن وباريس وبرلين ونيويورك وبرلين واسطنبول تزخر بآثار العراق وتحفه. ويمكن التدليل على حجم النهب الذي تعرضت له الآثار العراقية انه عندما وقع الاحتلال البريطاني لبغداد سنة 1917، واستولى الجيش البريطاني المتقدم نحو سامراء على قرابة (150) صندوقا كبيرا مليئا بالآثار المكتشفة في دور الخليفة في سامراء وحدها، وقد تم شحنها جميعا إلى المتحف البريطاني لتضاف إلى ما سبق أن سرقه( كلوديوس جيمس ريج) و(اميل بوتا) و(هنري اوستن لايارد) و(كريستين رسام)و(اوبرت كولد ناي)و(فالتر أندريه)و(ليونارد وولي) و(كإميل ثومن) و(ماكس مالوان) و (رالف سوليتر) وغيرهم.
لقد تأسست في العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى دائرة للآثار القديمة، سميت من قبل الانكليز المحتلين للعراق (الدائرة الاركيولوجية )، أي الاثارية، وتسلمت (المس كيروترود لوثيان بل Bell) سنة 1920 مسؤولية هذه الدائرة، وبل، هذه عملت سكرتيرة شرقية لدائرة المندوب السامي البريطاني ببغداد بعد الاحتلال، وكانت ضابطة سياسية Political Officer في المخابرات البريطانية، وقد جاءت العراق متسللة قبل بدء الحرب العالمية الأولى، وهي متخصصة بعلم الآثار، وتنقلت في إرجاء العراق الواسعة ،وألفت كتبا كثيرة وتوفيت ودفنت ببغداد سنة 1928، وقد ربطت دائرة الآثار أول الأمر بوزارة المعارف (التربية) ثم بعد ذلك بوزارة الإشغال والمواصلات ثم أعيدت إلى وزارة المعارف ثانية سنة 1926. وخلال فترة عمل (المس بل) في الآثار استطاعت استصدار قانون الآثار القديمة لسنة 1924، واعتمدت في وضعه على فقرة في صك الانتداب البريطاني تضمنت حصول البعثات التنقيبية الأجنبية على كثير من الامتيازات، ثم تولى إدارة الآثار بعد (بل) (كوك) وكان مستشارا لوزارة الأوقاف وقد عرف هذا بممارسة شراء الآثار العراقية، وتهريبها، وبيعها وحين ضبط متلبسا وهو يحاول تهريب احد الصناديق في الرطبة، اضطر المندوب السامي البريطاني (هنري دوبس) إلى تسفيره على الفور إلى بلاده بعد أن اتضح بان الصندوق يضم تحفا ولقى عراقية نفيسة، وقد عين سدني سميث الذي كان معاونا لمدير المتحف البريطاني في لندن، مديرا للآثار ولاشك في إن لتعيين (سميث) هذا على رأس دائرة الآثار العراقية إلف مغزى ومغزى.
لذلك اتسعت الدعوات المخلصة التي أطلقها نخبة من الوطنيين لتعريق دائرة الآثار وظهرت مقالات عديدة في الصحف، ثم أثيرت نقاشات حادة داخل المجلس النيابي العراقي حول ما تتعرض له آثار العراق من نهب ، لذلك اضطرت الحكومة آنذاك وكانت برئاسة (جميل المدفعي) سنة 1934 إلى إسناد (مديرية الآثار العامة) إلى المربي والمفكر العربي المعروف المرحوم الأستاذ ساطع ألحصري (توفى 1968) الذي كان يعمل آنذاك عميدا لكلية الحقوق بعد خروجه من مديرية المعارف العامة، ويعد ألحصري أول مدير وطني عربي عراقي يتولى إدارة الآثار في العراق.
وضع ألحصري نصب عينيه، حين باشر عمله سنة 1934، إعادة النظر في القانون الخاص بالآثار الذي وضعته (المس بل) ،وعمل على تعديل مواده بالشكل الذي يضمن الحفاظ على الآثار. ومما ينبغي ذكره في هذا الصدد أن السفارة البريطانية ببغداد أعربت عن امتعاضها من تعيين ألحصري، ووجه السفير البريطاني آنذاك مذكرة إلى وزارة الخارجية العراقية جاء فيها : ((علمنا أن ساطع ألحصري عين مديرا للآثار القديمة، وبما انه ليس من علماء الآثار ، فنخشى أن يتصرف في الأمور تصرفا يضر بمصلحة الآثار،ومصالح بعثات التنقيب عن الآثار... فرأينا إن نلفت أنظاركم إلى ذلك من ألان)).. وفي هذا يحاول المستعمرون البريطانيون إن يظهروا وكأنهم احرص على آثار العراق من العراقيين أنفسهم.. لكن الحقيقة أنهم باتوا يخشون على مصالحهم وإطماعهم في آثار العراق!!.
أعطى ساطع ألحصري لدائرة الآثار، بعد إن كانت صفتها بريطانية، ابتداء من التمثال النصفي للمس بل وكان موضوعا في مدخل بناية المتحف العراقي ببغداد وحتى اصغر عامل في الدائرة..كان الناس يتداولون فيما بينهم إن الآثار تنهب وتهرب إلى خارج العراق.. ويتألمون من ذلك.. كانت (التنقيبات)، وتسمى آنذاك (الحفريات) التي تقوم بها البعثات الأجنبية تجري دون أية رقابة . كانت الآثار التي تكتشف، تذهب وتقتسم بشكل عشوائي، لتوضع في المتحف البريطاني بلندن .. لذلك كله أقدم ألحصري على العمل من اجل سن قانون جديد للآثار سنة 1936 عد من ((أحسن قوانين الآثار الموضوعية في العالم)) باعتراف أعضاء المؤتمر الدولي للحفريات الذي انعقد في القاهرة سنة 1937.
ومما يذكر هنا، أن السفير الأمريكي ببغداد (جون نابنشو )، اشتكى ألحصري عند نوري السعيد وكان آنذاك وزيرا للخارجية،في وزارة جميل المدفعي الرابعة وقد كتب مذكرة في هذا الخصوص حتى إن نوري السعيد كلم ألحصري هاتفيا وكان في حالة نرفزة شديدة، كما يقول ألحصري في مذكراته (مذكراتي في العراق)، الجزء الثاني 1927_1941، بيروت 1968) وقال له بالحرف: ((شنو هذا يا أستاذ تطلع علينا مشاكل من دائرة الآثار، مع إننا إمام مشاكل سياسية كبيرة وكثيرة، سفير أميركا جاء يحتج رسميا)) فرد ألحصري قائلاَ: ((تأكد باشا إننا قد اعددنا للأمر عدته.. أرجوك لماذا تعتبرون القضية مشاكل سياسية.. قولوا لهم أن القضية قضية قانونية وعلمية.. ويمكن أن تحل بالوسائل القانونية والعلمية..)).
كانوا يريدون أن يستمروا في نهب آثار العراق وخيراته، ويتدخلوا في شؤون البلد وينزعجون إذا ما اعترض عليهم احد، أو إذا ما شعروا بأنه مخلص وأمين لوطنه ولامته.. جاء القانون الجديد للآثار ليحدد عملية القسمة بين مديرية الآثار في العراق وبين بعثات التنقيب، الأجنبية أو لنقل أعطى لأصحاب الدار الحق في الاحتفاظ بالمهم والنفيس مما يعثر عليه ولا تحدث القسمة أو الإهداء إلا في الآثار المكررة!!.
من الأمور التي وضع أسسها ألحصري، رحمه الله، الاهتمام بالآثار العربية والإسلامية، فضلا عن الآثار القديمة.. كما نشر العديد من الأدلة والكتب التعريفية بآثار العراق... أسس متحف الآثار العربية الكبير... ومتحف الأسلحة .. ومتحف الازياء ببغداد ، واستحصل موافقة وزارة المالية على تخصيص الأراضي والأموال اللازمة لبناء المتحف العراقي الحالي بجانب الكرخ من بغداد.
والاهم من ذلك كله، بدأ يخطط لإرسال بعثات علمية في تخصص الآثار إلى خارج العراق.
لقد كان من ثمار ذلك كله أن ظهرت في العراق بعد سنوات قليلة (مدرسة اثارية عراقية أصلية) كان من روادها المرحوم طه باقر. والمرحوم فؤاد سفر والمرحوم بشير فرنسيس والمرحوم محمد على مصطفى وغيرهم .
لقد تحمل هؤلاء الاثاريون مسؤولية ترصين المدرسة الاثارية العراقية وسرعان ما أصبح لهذه المدرسة خصائصها وفلسفتها وسماتها المعترف بها في الأوساط الاثارية العالمية، كما أن النتائج الباهرة التي حصل عليها الاثاريون العراقيون الرواد من خلال ممارساتهم لمواسم التنقيب في (حسونة و اريدو والحضر و واسط وحرمل وعقرقوف وسامراء) كان لها صداها الواسع ليس على صعيد العراق والوطن العربي وحسب وإنما في العالم كله.
لقد عرف أولئك الرواد بسعة الاطلاع، والثقافة العلمية، والحرص الشديد على آثار بلادهم، والرغبة الكبيرة في الكشف عن مكنونات حضارات العراق وكنوزه وتحفه.. وقد تميزت التقارير التي كانوا يضعونها عن نتائج التنقيبات، وكذلك البحوث والمقالات التي كانوا ينشرونها في المجلة الرائدة التي صدر عددها الأول باسم (سومر) في كانون الثاني سنة 1945 وتزال تصدر حتى ألان، حينما تولى منصب مدير الآثار العامة المرحوم الدكتور ناجي الأصيل (1894_1963)، تميزت بالدقة والموضوعية، وكان لسعة معرفتهم باللغات القديمة كالاكدية والآرامية وببعض اللغات الأجنبية كالانكليزية ، أثر كبير في نجاحهم في الإشراف على إعمال التنقيب والصيانة التي قامت بها دائرة الآثار طيلة السنوات السبعين الماضية.
ولم يتوقف هؤلاء ومن ساندهم من رجالات التاريخ والثقافة عند هذا الحد، بل أنهم بذلوا جهدا كبيرا في تأسيس أول معهد لدراسة الآثار والحضارات القديمة في العراق سنة 1951، وسرعان ما انتشر تلاميذهم الذين تحملوا المسؤولية في هيئة الآثار والتراث .. وتدل إعمالهم في التنقيب والصيانة التي قاموا بها ولا يزالون بأنهم أبناء وأحفاد بررة لاؤلئك الرواد العظام مؤسسي المدرسة الاثارية العراقية المعاصرة.
*ميدل ايست اون لاين 17-11-2009

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

768 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع