د.ضرغام الدباغ
أنطونيو متشادو ... شاعر أسبانيا العظيم
أنطونيو ماتشادو: 1875 – 1939 : ولد ماتشادو (Antonio Mashado) في مدينة أشبيلية في أسرة مثقفة، إذ كان والده عالماً في الفلكلور الأسباني، ووالدته كانت ذات ثقافة أوربية وبصرف النظر عن أي من الثقافتين كانت الأكثر تأثيراً فيه، فأن متشادو نشأ شاعراً إنسانياً، مخلصاً لأسبانيا.
وفي سن الثامنة قطن وعائلته في العاصمة مدريد، ودرس في معهد ذو مستوى ممتاز، وبعكس المدارس الكنيسية، كان المعهد ذا طبيعة متحررة وتقدمية. وكان لتفاعل ماتشادو مع الظروف التي مرت بأسبانيا في مراحل اشتداد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، مثلت جزءاً مهماً من تكوينه الثقافي وإلهامه الشعري، وكانت أسبانيا جديدة في طريقها إلى الولادة. فكتب عن تلك المرحلة شعراً .
وفي عام 1899 ذهب ماتشادو إلى باريس حيث يقيم شقيقه مانويل، وتعلم اللغة الفرنسية وعمل في الترجمة. وتعرف على الشعراء والفلاسفة والكتاب أمثال أوسكار وايلد، برجسون، بولفورت، ثم تعرف على الشاعر روبين داريو، وهو شاعر من نيكاراغوا عاش في أسبانيا وفرنسا، أبان مرحلة تأسيس مذهب الحداثة وتأثر به ماتشادو بالغ التأثر وبسائر الأجواء الثقافية الباريسية، وفي تلك المرحلة نشر ديوانه الأول "وحدة" عام 1903 .
وعندما عاد متشادو من باريس إلى وطنه عام 1906 تقدم لمسابقة في ميدان التعليم فحصل على وظيفة مدرس للغة الفرنسية في المدينة التي تحمل أسماً عربياً " سوريا "، حيث عمل هناك مدرساً للغة الفرنسية وهناك تعرف على الفتاة التي أحبها من كل قلبه، وتزوج منها وهو في سن 34 سنة وهي سن 15 سنة، وكانت ملهمته في العديد من قصائده، ولكن سعادته بليونور لم تدم طويلاً إذ توفيت أثر مرض ألم بها عام 1911. وفي عام 1903 أصدر متشادو أول ديوان شعري له.
وعندما توفيت لمرض مفاجئ، ومعاناة الغربة نتيجة انتقاله من مدينة سوريا إلى مدينة جيان، أصدر ديوانه " حقول كاستيا" سنة 1912، عبر فيها عن معاناته في سوريا وأيام الحب ومشاعر الغرام بينه وبين حبيبته ليونور وتتضمن قصائده في تلك المرحلة آلامه المبرحة بسبب فقدانه لزوجته، فكتب يقول حين وفاتها ..........
ربّاه
لقد أخذتَ مني من أحب
فأسمع الآن بكاءَ هذا الفؤاد وحيدًا وأحزانه
تلك هي مشيئتك ضد مشيئتي
الآن، يا ربي، إنهما وحيدان
قلبي والبحر
" ديوان حقول قشتالة ".
وينشر ماتشادو ديوانه الثاني "حقول قشتالة " ، ثم نشر ديوانه " قصائد كاملة " ثم يتعرف على البروفسور الفيلسوف الوجودي أونامونو وتنعقد بينهما صلات صداقة، كما ينال أعجاب الكثير من الكتاب والفلاسفة والشعراء في ديوانه الثاني والتي يقول في مقدمته " لقد فكرت في أن مهمة الشاعر هي أبداع قصائد جديدة تتغنى بما هو إنساني خالد ".
وفي عام 1917 يبدأ اتصاله بالقوى الاشتراكية في بداية العهد الديمقراطي، وينشط في هذا الإطار من خلال مهرجانات شعرية، ومحاضرات فكرية ..الخ ومع إعلان الجمهورية في أسبانيا عام 1931، أنتقل إلى مدريد وأنتخب عضواً في المجمع اللغوي الأسباني ولكنه لم يشغل كرسيه بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في المرحلة اللاحقة.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية الأسبانية في تموز/ 1936، نشبت الحرب الأهلية ويقف ماتشادو في مدريد مدافعاً عن الجمهورية أمام زحف القوات الفاشية. وفي شهر آب من نفس العام، يلقى أحب شاعر إلى قلبه، غارسيا لوركا، مصرعه على أيدي الفاشيين، فيرثيه بقصيدة عنوانها " الجريمة حدثت في غرناطه " كتب يقول:
" حملت إلي الصحف هذا الصباح نبأ اغتيال فيديريكو غارسيا لوركا في غرناطة، لقد قامت مجموعة من الرجال، ترى هل هم رجال ..؟ قامت فصيلة من الوحوش بإعدامه بثقب جسده بالرصاص، لا نعلم في أي جزء من مدينة النخيل القديمة مدينة النهرين اللذين تغنى بهما لوركا. ما أتعسك يا غرناطة، وستكونين أشد تعاسة لو كان لك ذنب في موته، لأن دم فدريكو، ابنك فيديريكو، لا يجف مع الزمن ...
احرثوا أيها الأصدقاء
قبرا من حجر ومن حلم
لجثمان الشاعر
في قصر الحمراء
قرب نافورة يبكي فيها الماء
مرددا إلى الأبد
الجريمة حدثت في غرناطة
في غرناطة...
وكان ماتشادو مؤيداً للجمهوريين وضد الجنرال فرانكو، ولذلك اضطر إلى ترك مدريد بعد حصارها، متجها نحو بلنسية، ومن هناك إلى برشلونة، وفي عام 1939 هرب إلى جنوب فرنسا في مدينة كوليور بعد انتصار قوات الجنرال فرانكو التام في الحرب الأهلية، ليتوفى هناك في العام نفسه، وبعد ثلاثة أيام توفيت أمه أيضاً والتي كانت تصاحبه في سفره هذا.
ينتمي متشادو إلى جيل الثمانية والتسعون، على الرغم من أنه يصنف نفسه في جيل 1914. صنع وزملاءَه الأدباء ما سُمِّي في حينه حركة استرداد الحسّ الشعبي كردّ فعل ضدّ الأوضاع المتردّية سياسياً واجتماعياً وثقافياً، بعدما خسرت أسبانيا ثقلها الإستراتيجي في العالم بعد هزيمتها أمام الولايات المتحدة، ومن خلال أعمالهم الأدبية ركَّزوا على المحلّية كصيغة جديرة بردِّ الاعتبار إلى الذات الأسبانية الجريحة.
اشتهر في توجهه الفلسفي في قضايا في منتهى التعقيد والأهمية مثل قضية فلسفية "الجبر والاختيار" ومصير الإنسان وعدم كمال الإنسان. كان ماتشادو يعبر في أشعاره عن تلك الأفكار أو يستخدم شخصية مسرحية أو البطل لينقل أفكاره للمشاهدين، وهو ما أدى إلى تعرضه للنقد بصورة دائمة.
وفي كانون الثاني /1936، يهرب ماتشادو من أسبانيا إلى فرنسا وهو مريض وأمه العجوز تسأله " متى سنصل إلى أشبيلية "، وبعد شهر من خروجه من وطنه يلفظ آخر أنفاسه وهو يردد آخر بيت شعر نظمه . وإليك قارئي العزيز هذه القصيدة المغناة لمتشادو(الطارق)، ويكاد يحفظها جميع الأسبان عن ظهر قلب : أيها الطارق
أيها الطارق، آثارك هي الطريق ......(الطارق، بمعنى عابر السبيل)
لاشيء أكثر...
أيها الطارق، ليس ثمة من طريق
يتشكل الطريق لدى المسير
لدى المسير يتشكل الطريق
وحين نلتفت إلى الوراء
نشاهد الدرب الذي أبداً
ليس علينا أن نعود فنطأه
أيها الطارق، ليس ثمة من طريق
بل نقوش في البحر...
2048 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع