أحزان لكنها ما زالت تضحك

                                                     

                      جيهان أبوزيد

اندهشت للسور الذي يتحرك في القاهرة كما لو كان طائرة ورقية. كنت آنذاك في الرابعة عشرة من عمري وخبرتي بأحياء القاهرة وأنا ابنة الأقاليم تشبه خبرتي بشوارع اليابان التي لم أرها قط.

في المدخل وجدت عاموداً مرصعاً باللافتات والأسهم الدالة على صالات العرض، بينها كتب اسم "سور الأزبكية" كل ما كنت أعلمه أن هذا السور يقع في قلب القاهرة قريباً من ميدان الأوبرا فكيف انتقل إلى منطقة أخرى على أطراف القاهرة؟
حين قابلت مشرفة الرحلة المدرسية أجابتني وهي تضحك، أن تجار الكتب بالسور ينتقلون بكتبهم إلى داخل معرض القاهرة الدولي السنوي لعرض كتبهم، حاملين معهم نفس الاسم، الزحام الكثيف أوحى لي آنذاك أن مصر كلها هناك لكن عالمي اتسع على مر السنوات، وعرفت أن معرض فرانكفورت هو الأكبر والأشهر عالمياً، كما أن معرض طهران يتعدى في مساحته مساحة معرض القاهرة. في هذا العام اكتشفت أن المعارض تشبهنا كما المرآة، فمعرض هذا العام مختصر في مساحته وفي عدد دور النشر، وفي جمهوره، الأرض الواسعة التي كانت تختفي أسفل الخيام المضروبة ظهرت، ورأيت للمرة الأولى كم كان المعرض كبيرا في أعوامه السابقة، لكنى أُخذت كما الآخرين بالإقبال الذي حل على "سور الأزبكية". السور القديم بوسط القاهرة الذي يجعل من نفسه معرضاً دائماً يبيع الكتب المستعملة بأسعار زهيدة، ولديه يجد الباحثون بعضاً من أهم الإصدارات وأقدمها، السوق القديمة كانت هي الرابحة من المعرض هذا العام، كما ربح باعة المأكولات الخفيفة والأسر التي وجدت متنفسا أوسع لأبنائها فانتشر الأطفال وتبعثرت ضحكاتهم وألعابهم في المكان، في المعرض ظهرت أعلام مصر وافترشت الطاولات إصدارات تدرس للثورة المصرية وتوثقها وتحلم بمستقبلها. الإصدارات الفاحصة للإخوان سواء مدحاً أم ذماً لاقت رواجاً.
وعلى غير العادة غابت الشمس كثيرا وأمطرت القاهرة نادرة المطر فازدهر الاختناق. وجوه البشر الشاحبة ونظرة الانتظار في أعين الناشرين. الكتب والأطعمة والباعة المتعبون والزوار الضائعون في بحر ما لا يعرفون أبعاده شكلوا معاً معرضاً بمواصفات مصر. معرض يعاني الاكتئاب ولم يصل طبيبه بعد.. بعدما عُدتُ انتبهت أني لم أزر صالات الكتب وأني كنت في زيارة لوجوه الناس.
عرفت هذا النوع من المعارض للمرة الأولى حين صدمني الموت في صديقة لم يزد عمرها عن الواحدة والعشرين عاما، لم تمضِ سوى بضعة أشهر عقب تخرجنا، وإذا بحادثة غير مفهومة تغتال حياتها، في مجلس العزاء انتبهت للوجوه المكلومة، كانت أمها تعتصر حزناً لكنها لم تبكِ، ظلت شاخصة في المقعد المقابل تحرك رأسها حين تتلقى العزاء من إحداهن ثم تعود إلى انسحابها، أخت صديقتي كانت ذائبة الأعين من فرط البكاء، أما جدتها فقد أخذت توزع القهوة والشاي بإصرار غريب على المعزيات، كانت تهرب في الأكواب الزجاجية ولا ترد على الجميع، في العزاء رأيت الحزن معروضاً بألوانه وأشكاله المختلفة. ثم تصادف أن عاصرت حادثاً مشابهاً في الولايات المتحدة ورأيت حزنا آخر لا ينكر الضحك، ويرحب بالزهور، لكنه أيضاً كان حزناً. اتسعت قاعات المعارض مع السنوات، ورأيت في شوارع الهند فقرا في لوحات متنوعة، معرضا لا يضاهيه آخر، نساء تبيع حبات جافة، وشباب معاق يستجدي بعينيه دون صوته ووجوه متهالكة من الجوع ورجال مكسورة الروح، في الشارع المتكسرة أرضه كانت الفخامة سيارة هندية بعجلات ثلاثة تحمل بالكاد سائقها وراكباً آخر لا يغطيه إلا سقف لا يزيد على نصف متر هو حجم السيارة أو ما يقال عنها سيارة. السيارة اتضح أنها لإمام مسجد كان مسرعاً ليلقى وفد الزوار، وكنتُ بينهم أنتظره في بهو المسجد الذي توسطته بركة مياه. في القاهرة أيضاً وفي المغرب وفي السودان شاهدت في الشوارع معارض مفتوحة تضم أطفالا لهم أعمار مختلفة وعليهم ملابس ممزقة، لكن لكل منهم قصة مختلفة تقطر ألما وتطلق أسئلة أكثر من كل الأرقام.
ثم حدث أن انتبهت إلى معارض السيارات المفتوحة للجمهور دائماً وأبداً في شوارع القاهرة وفي غيرها من الدول، ووجدت أن معارض السيارات أيضاً تعمل هي الأخرى كالمرآة وتفشي سر الفقر في البلاد. لكن القيادة ذاتها هي معرض آخر يكشف عن سر الإدارة والأنظمة، وبعدما تكدست ظاهرة المولات التجارية في كافة الدول العربية رأيت فيها معرضاً للغزل الصريح والدفين، غزلُ يسبح في المقاهي الثرية والمطاعم والردهات التي تزينها الأضواء والملابس والنظرات الدافئة، معرض الغزل يجذب للمولات مرتادين جدداً كل يوم فتتكدس بالبضاعة وبالبشر وبالأحلام.
جميعها معارض.. بعضها نُظًم بفعل فاعل وأخرى حدث أو وجدت.. على أن معارضنا الخاصة هي الأدعى للدهشة، حين نعود للسنوات لنجد اللوحات معلقة إزاء بعضها البعض، كم تمنيت أن أغير موقع اللوحات أو أعبثُ قليلا بالمواعيد؟ لكني وجدتُ أن الماضي قد جمُد. الجميل أن المستقبل ما زال طازجاً وقد وعدني أن يبقى مرناً ندياً.

 

 

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1342 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع