مثنى عبيدة
أوراقٌ وأرواح /للتاريخ والعبرة ح 9
لقد أكرمنا الله تعالى وأنعم علينا بهذه الحياة التي نحيى بها عمراً وزمناً معلوم عنده تعالى مجهول لدينا ، لذا نجد كل شيء مسخر لخدمة إلانسان أو يطوره لخدمته من أجل أن يحيى حياة كريمة تليق به بغض النظر عن دينه أو قوميته أو لغته أو أوراقه الثبوتية لأن حقه في الحياة مكفول بكل الشرائع السماوية والقوانين والأعراف الدولية ، فلا قيمة لأي ورقة بيضاء أو صفراء أو خضراء أمام قيمة الحياة البشرية .
في ربيع عام 1987 خرج أخي سعد من مستشفى اليرموك وهو يتكأُ على عكازين يحملاني جسده النحيل بعد أن تم بتر ساقه اليمنى لغاية الركبة وكم بكت أمي لمنظره يوم دخل عليها في بيتنا وهو على هذه الحال وهي التي كانت تمني النفس برؤيته شخص معافى ناجح في حياته حتى إنها سعت مثل أي أم عراقية لكي لا يدخل للجيش ويتعرض لما تعرض له حيث كلفت أحد أقرباءنا بجلب أوراق ترشيح سعد لأحدى الدوائر الأمنية في بغداد وفعلا تم الأمر وحين تم جلب الأوراق أمام سعد رفض بشدة أن يتقدم لهذه الدائرة حيث كان يؤمن أيمان قاطع بأن العمل في هكذا مكان يتعارض مع دينه وتقواه وأخلاقه وكانت البراءة عنده أكبر من أن يقتلها بالتسبب قي ظلم احد أو الإساءة لأحد وكان عنده المسجد أكرم من أي بقعة وثقة الآخرين به أهم من حياته نفسها ( ولا نزكي على الله أحد ولكن الله الشاهد على صحة ما أقوله في حق أخي سعد )
أما أنا فقد بدا فصلٌ جديدٌ في حياتي أسمه اللجان الطبية العسكرية حيث تقرر عرض حالتي الصحية على اللجنة الطبية الخاصة وكان موقعها قرب مستشفى الرشيد العسكري وفعلاً تم تحديد يوم 13/ 5 / 1987 لكي أمثل أمامها بعد أن أكون قد أكملت أوراقي وملفي الطبي من قبل الأطباء الاختصاص في م الرشيد والعجيب إنه لم يأخذ برأي الدكتور الذي أجرى لي العمليات الثلاثة الأخيرة الخاصة بالأوعية الدموية لكونه طبيب مدني وهو الدكتور صديق الخشاب في مستشفى أبن النفيس للقلب والأوعية الدموية !!!
جاء اليوم المحدد فقمتُ من الصباح الباكر وحلقت لحيتي وارتديت ملابسي العسكرية وبكامل أناقتي وصلت إلى حيث مكان اللجنة فوجدت أشخاص متجمعين بشكل دائري وجلست معهم وبدأنا نتعرف على بعضنا البعض وكانوا ينتظرون دورهم في الدخول على اللجنة فالتفت لي أحدهم وقال ما هي قصتك فقصصت عليه حالتي وإصابتي ، فضحك كثيراً فقلت له ما يضحكك قال إذا هذه حالتك وأنت تأتي إلى اللجنة بكامل قيافتك وأناقتك فسترى من منا سيتم إخراجه من الجيش لأسباب صحية ومن سيبقى بالخدمة العسكرية سالم مسلح فقلت له ماذا تعني قال أخي هل لاحظت ماذا نرتدي الكل يلبس ( الدشداشة ) العراقية وقد أطلق لحيته وفي يده عصا خشب غير نظامية قد أقتطعها من الحديقة أو عصا حديد قد تكون من أنابيب المياه وغيرها وأنت تقدم ُ إلى اللجنة متعطر وبهندام كامل فقلت له أخي أنا لا أحتاج أن أتصنع أو أن ( أبهذل ) نفسي حتى تقتنع اللجنة بسوء حالتي فهناك الأوراق الطبية هي التي تثبت خطورة وضعي الصحي والعمليات التي أجريتها ، قال سنرى وتركني بعد أن علت على وجوه الحاضرين ابتسامة ساخرة .
تم المناداة على أسمي ودخلت إلى اللجنة الطبية الخاصة حيث وجدت طاولة مستطيلة وحولها مجموعة من الأطباء العسكريين وفي أخر الطاولة جلس طبيب أعلى رتبة منهم وهو رئيس اللجنة حيث وقفت ُ بين يديه فقال أنت مثنى قلت نعم قلب أوراق الفحوصات الطبية التي أجريتها فكتب على الورقة الرئيسية كلمات لن أنساها :
سالم مسلح يعاد إلى وحدته العسكرية هكذا بجرة قلم قرر اللواء الطبيب فاضل ماجد الحبيب إني معافى وليس هناك من مشكلة لعودتي إلى آتون المعارك فقلت له سيدي تسمح لي أنا لم أجري عملية واحدة بل أجريت خمسة عمليات خلال هذه الفترة وهي سنة واحدة وتعرضت لنزيف ومشاكل كبيرة تستطيعون سؤال د صديق الخشاب عن حقيقة وضعي الصحي فقال أسكت وأخرج ( أطلع بره بالعراقي ) قلت له سيدي أسمعني أرجوك فقال أقول أخرج وفعلاً جاء جندي يقف بالباب وأخرجني خارجاً وأنا أكاد لا أصدق فوجدت صاحبي الأول فقال ها ألم أقل لك لا ينفع الصدق مع هؤلاء .
جلست قرب شجرة على الأرض طبعاً حيث لا كراسي مخصصة للعراقيين الذين أعطوا دمهم من أجل بلدهم وهنا أرتفع صوت الآذن لصلاة الظهر فبكيت بحرقة وقلت يا رب هذا الطبيب يحمل لقب الحبيب وأنا أحب الحبيب محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فاجعلني وإياه نقف بحضرة الحبيب يوم العرض عليك لكي ترد لي الحق منه وهنا وجدت علبة سكائر فارغة مرمية على الأرض ومزقتها وكتبت ُ عليها
ما لي أراك يا دنياي بوجهي تتجهمي
أهذا جزأك لمحب ٍ مخلص ِ
حتى في العشق يا دنياي كنت تتربصي
ما لكِ تخطفين بسمة كادت ترتسم ِ
وأفقتُ على صوت يناديني من جديد أخذ كتابك وعد إلى وحدتك العسكرية فقد انتهت إجازتك المرضية وأنت ألان سالم مسلح ( بالمناسبة سالم مسلح يعني إنسان مستعد للقتال وليس لديه أي مشكلة صحية ).
رجعت إلى أمي فقلت لها الخبر وانخرطت بالبكاء فقلت له الله كريم لا تخافي علي ربنا الحافظ.
أعددت حقيبتي ومعها ( الكليجة العراقية وبعض المأكولات ) وذهبت إلى البصرة حيث استقبلني أخوتي وأصدقائي الجنود مهللين فرحين وهو يتصورون أني قد خرجت من الجيش وجئت مودعاً فقلت لهم أرجو أن تفرشوا لي الفراش وتجدوا لي عندك مكان لأني سأبقى معكم فعلت وجوههم الصدمة وعلامات التعجب ، بعدها قرر أمر الضباط عرضي على طبيب الوحدة الذي قرر إرسالي إلى مستشفى البصرة العسكري حيث التقيت بطبيب يحمل رتبة رائد وأسمه فريد وهو من مسيحي العراق فقال بعد أن فحصني ( والله الطبيب الذي أرسلك إلى هنا ما عنده ضمير لان حالتك خطرة جداً ولو حصل نزيف في الطريق لكنت قد مت ) فقال أخي أنا سأعطيك إجازة وهذه صلاحيتي وأعيدك إلى وحدتك وفعلاً قرر أمر الوحدة بعد استشارة أمر السرية جزاهم الله خيراً أعادتي إلى مقر الوحدة العسكرية في بغداد وأكون في حراستها لكي أستطيع مراجعة أطبائي .
عدت إلى بغداد وقد بدأت أعراض تخثر الأوعية الدموية تظهر على ساقي اليمنى كلها وراجعت الدكتور صديق الخشاب وقد تألم جداً لحالتي وقرر أن يدخلني المستشفى للعلاج فطلبت منه مهلة مؤقتة وعدت إلى بيتنا فوجدتُ أخي سعد يسألني بأنه مطلوب للجان الطبية العسكرية ولكن عليه أولاً أن يجلب أوراق المجلس ألتحقيقي الخاص بإصابته ( وهنا وبعد ربع قرن أتسأل إلا توجد عبارة أجمل وأكرم من مجلس تحقيقي ؟؟ وأي أوراق يتحدثون عنها وقد بترت ساق الجندي العراقي أو قطعت أوصاله ؟ إلا تكفي المشاهدة العينية ؟ ألا تكفي أول ورقة حصل عليها المصاب بعد وقوع إصابته ؟ ثم لماذا على أهل الجندي المجازفة والتضحية والذهاب إلى الجبهة المشتعلة لكي يجلبوا أوراق لا قيمة لها أمام حياة الإنسان ؟ ثم هل هذا هو التكريم الملائم لمن قدم جسده لأجل بلده ؟؟) .
أسئلة لن تجد لها جواب لدى من أصم الله أذانهم وأعمى بصيرتهم وختم على قلوبهم بالظلم والعدوان على أهلهم وأبناء وطنهم.
قلت لأخي سعد أبشر سأذهب أنا إلى وحدتك العسكرية اللواء 78 مشاة وكان على الخطوط الأمامية للجبهة طبعاً أمي قالت كيف تذهب وأنت بهذه الحالة وكان حاضراً أخي وصديقي عبد الجليل التكريتي فقال أنا أذهب مع مثنى وبالمناسبة عبد الجليل هذا يقول دائماً أنه أفقر تكريتي على وجه الأرض وهو من تكارتة بغداد الكرخ ويعمل مشرف تربوي لمادة اللغة الانكليزية وقتها وهو أبن عائلة كريمة متعلمة فقيرة الحال لم يلتفت لها أهل السلطة والحكم رغم أنهم من نفس اللقب وإنما قربوا الجهلاء وأبعدوا أهل الحكمة والعلم من أخوتهم وأبناء عمومتهم .
جاء عبد الجليل على دراجته المتواضعة قاطعاً مسافة طويلة وتركها في دارنا وذهب إلى الجبهة للحصول على بضعة أوراق لا قيمة لها إلا في عقول وقلوب غير إنسانية وبعد أن وصلنا إلى الخطوط الخلفية للواء 78 مشاة قالوا لنا انتظروا سيارة الأرزاق ( الطعام ) وأذهبوا فيها وفعلاً صعدنا وتحركت المركبة وبعد مسافة ابتدأ القصف المدفعي المعادي وكنت حينها أفكر بصديقي عبد الجليل فقلت في نفسي أنا لأزلت جندي بالخدمة ولكن هو رجل مدني حتى لو قتل لن يعتبره شهيد ولن تحصل عائلته على أي تعويض فماذا أنا فعلت بهذا الرجل وكيف ارتضيت أن يتحمل المخاطر لأجلي وصارحته بأفكاري فقال مثنى أنت أخويه هل أتركك وأنت مصاب ومريض تأتي إلى هنا وحدك ثم أنا وأنت غير متزوجين فلن نخشى على أطفال أو زوجة أما أمهاتنا فتعلمن على البكاء وضحكنا لنبدد خوفنا وقلقنا وغضبنا على الحالة التي نحن فيها وبعد أن وصلنا إلى الأوراق المطلوبة عدنا مع نفس المركبة وكان عبد الجليل يحملني بالصعود والنزول فأرجو الله أن يحفظه ويجازيه عني خير الجزاء .
عدنا إلى بغداد محملين بالغنيمة والفوز العظيم والجائزة الكبيرة أنها أوراق أوراق أوراق
لمجلس تحقيقي عسكري يخص جندي عراقي قدم جزءً عزيزاً من جسده على محراب الوطن فكانت المكافأة التحقيق بالواقعة لكي تكتمل الصورة.
عجيب أمر هذه الأوراق كم شخص دفع حياته ثمناً لها كم أخ ذهب لجلبها من الجبهة من أجل أخيه المصاب فإذا بالعائلة العراقية تتلقى خبر مقتله بالقصف أو محاصرته بالمعارك الملتهبة
دون أن يعود بالأوراق بل عاد ملفوفاً بالأعلام !!!
أوراق كان بالإمكان طلبها ضمن البريد العسكري أو عبر الهاتف أو أي وسيلة أخرى مُلزمٌ بها من دفعنا إلى الحرب لا أن تكون الروح البشرية ثمناً لهذه الأوراق .
أوراق أين هي ألان لقد بعثرتها الريح كما بعثرت عراقنا الجريح .. وبعد أن أخذت كل عزيز..
ماذا نقول وقد أمست حياتنا معلقة بين أوراق بكل الألوان الملونة والسمراء قد تلطخت بالدماء العراقية الكريمة ماذا نقول ولمن نشتكي سنين ضاعت خلف أوراقٍ لم تكتمل خطوطها لكنها أخذت كرامة وحياة الإنسان فماذا نقول ولمن نقول................. ما لنا غيرك يا الله ............
للحديث بقية أن كان بالعمر بقية بإذن الله تعالى
للراغبين الطلاع الى الحلقة الثامنة النقر على الرابط أدناه:
http://www.algardenia.com/maqalat/2528-2013-01-10-19-41-47.html
1352 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع