مثنى عبيدة
أبرياء ٌوسط اللهيب / للتاريخ والعبرة ح 8
عالم الطفولة الرائع بكل براءته ونبل قسماته وطهر صفاته وصدق ضحكاته ودموعه وعذاباته يبقى خالداً في الذاكرة الإنسانية الجمعية أو الفردية لما يتركه من أثر في تشكيل الفكر والسلوك للفرد أو المجتمع ، لذا نجد الكثير من تصرفاتنا قد تكون أرتدادت لموجات الطفولة وما تركته في وجداننا وحياتنا والكثير منا يتمنى أن تعود تلك الأيام الخوالي أو يبقى هائماً في عالمها الرحب لا تغيره كل قسوة الأحداث ومجرياتها .
في أواخر عام 1986 م وبعد خروجي من مستشفى أبن النفيس للقلب والأوعية الدموية تم منحي أجازة ولمدة ثلاثة أشهر وبما أني لا زلت جندي بالجيش العراقي فقد تطلب الأمر أن أحمل ورقة الإجازة إلى مستشفى الرشيد العسكري ليتم تصديق هذه الإجازة لكونها صادرة من مستشفى مدني وفعلاً توجهت إلى القسم المتخصص حيث وجدت مجموعة من الجنود المصابين واقفين بالدور ليتم إدخالنا على المقدم طبيب ( ح ) ودخلت عليه وألقيت عليه التحية العسكرية والإنسانية فلم يعرني جواباً أو اهتماما عرضت عليه أجازتي فإذا به يرفع رأسه ويقول متهكماً لماذا ثلاثة أشهر أليست كثيرة وطويلة فقلت له بأني كنت راقد بالمستشفى قرابة أربعة إلى خمسة أشهر وأجريت عدة عمليات خلالها فقال طيب هذه أجازة لمدة شهر وتراجع بعدها ( وهنا بداية الصدمات التي ستواجهني مستقبلاً ) حيث خرجت متسائلاً مع نفسي كيف لطبيب يقوم بقطع وتجزئة أجازة طبية منحها واحد من أفضل أطباء القلب في العراق وهو الدكتور صديق الخشاب وصادق َ عليها مدير مستشفى ابن النفيس الدكتور رسمي الركابي وهو واحد من كبار الأطباء بالبلد ثم لماذا لا يتم التصديق على أجازة منحت من مستشفى الأطباء العسكريون هم من أحالني إليها ؟؟
عدت إلى البيت وما هي إلا فترة قليلة حتى تم إدخالي مستشفى أبن النفيس لغرض إجراء العملية الخامسة لي والتي تمت في 21 / 1 / 1987 م والتي تطلبت أن يقوم أخوتي وأقربائي بالتوجه إلى إعدادية لتجارة البنات تقع مقابل المستشفى للتبرع بالدم لي وفعلاً تجاوبت المدرسة وتم أخذ الدم من الطالبات اللواتي لا اعرفهن ولا يعرفنني ولا يعرفن من أي دين أو قومية أو مذهب أنا ( لهم ولإدارة المدرسة مني وعائلتي خالص التقدير والاعتزاز لموقفهم الكريم ) .
الحمد لله خرجت من المستشفى إلى البيت على أن استمر بالمراجعة الطبية أسبوعياً ، وذات يوم رن هاتف المنزل فقمت برفع سماعته ليأتي صوت عرفني بنفسه أنه من مستشفى اليرموك الواقعة بجانب الكرخ فقلت خير إن شاء الله وأنا في قراره نفسي أخشى من الخبر حيث تدور معارك شرسة في قاطع نهر جاسم بين الجيش العراقي والإيراني .
قال محدثي إن أخوك سعد مصاب عندنا قمت بإقفال الخط وخرجت وعصاي بيدي فشاهدت أمي وجهي مكفهراً مصفراً فقالت ما بك قلت لا شيء سوف أذهب إلى مستشفى اليرموك وكان زوج أختي موجود فقلت له هي معي ننطلق فقالت أمي وبقلب الأم الملتاعة وبصوتٍ حازم ٍ قل لي ماذا هناك فقلت لها سعد مصاب ولم أكمل جملتي حتى وقعت أمي بالشارع مغمياً عليها لتعلوا الصيحات من الجيران وأخواتي فتركت أمي بعد أن أيقظوها وأسرعتُ إلى حيث أخي الحبيب سعد ، سعدُ أخي هذا شاب نحيل الجسم رقيق المعشر لا يأكل إلا طعاماً محددة وهو من الناس الأبرياء الذين عاشوا طفولة طيبة كريمة رغم الصعاب ولكنه لا زال يحيى بتلك البراءة وعالم الطفولة والنقاء وزادها تدينه صدقاً بالسلوك والقول والعمل وبعد أن أكمل دراسته في إعدادية الصناعة تم استدعاءه لخدمة الجيش وفعلاً ألتحق فإذا به يصبح في فصيل المخابرة في لواء 78 مشاة وكان في منطقة مندلي على ما أعتقد ، ولم نكن نعلم بان سعد قد تم الزج به في معركة نهر جاسم وهو لم يكد يُكمل شهره الثالث بالخدمة .
وصلت مستشفى اليرموك فإذا بي أجد ردهة كبيرة تمتلئ بالجرحى وهنا جاء صوت سعد ليقول أنا هنا فقبلته وجلاً خائفاً فقلت له الحمد لله على السلامة ها أخويه الحبيب سلامات فقال وبرباطة جأش قوية لقد بترت ساقي اليمنى من القدم فقلت له ماذا أين هي فرفع الغطاء عن ساقه فإذا بقدم قد بترت نصفها فقلت ماذا حصل أخبرني قال تم أخذنا إلى نهر جاسم وهناك يبدو أني قد وضعت قدمي على لغم فأنفجر علي وبترت قدمي اليمنى .
حاولت التماسك وأنا أمسكُ جراحي التي لم تشفى بعد وطلبت من أبو محمد زوج أختي أن يتصل بالبيت لكي يطمئنهم ،
وهنا بادرنا سعد بسؤال ٍ غريب ٍ لمن يستمع إليه لكنه يتوافق مع من هم على شاكلة سعد من أجيال طاهرة نقية تحيى ببراءة الطفولة وعالمها قال
أخي أريدُ أن أسألكم أنا حينما أصبت وبترت قدمي قمت برمي جهاز المخابرة عن ظهري وكذلك بندقيتي وتركتهما في ساحة المعركة فهل في هذا مسؤولية علي؟؟؟..
هنا لم أتمالك نفسي فبكيت بحرقة وقلت أخويه عن أي شيء تسأل وقد قطعت قدمك ألعن أبو البندقية والجهاز وألعن السبب في كل هذه المصائب ؟ بكيت لأن سعد وأمثاله كثيرون تم سوقهم إلى المعارك بدل الكليات والمعاهد وبدلا ً من يحيى حياته كشابٍ في مقتبل العمر حيث لم يكن أخي حينها قد بلغ التاسعة عشر من عمره أذا به اليوم قد أصبح معاق إعاقة دائمة ولا نعرف ما ذا يخبئ له ولنا ولكل العراقيين القدر .
في ردهة الكسور والمفاصل جاء الدكتور صائب المدلل رحمه إلى الله إلى أخي سعد وكنتُ عنده فإذا به يقول بأن علي أن أجري عملية سريعة لأخيك وأقوم ببتر ساقه اليمنى ولغاية الركبة وذلك لإصابته بـ( الكنكرينيا ) نتيجة لعدم تعقيم الجرح بصورة صحيحة من قبل المستشفى العسكري الميداني .
الحقيقة دارت بي الأرض وقلت للطبيب ماذا تقول قال ما سمعته ويجب أن يتم الأمر بسرعة قبل أن يفقد َ حياته وسألني ماذا عندك الأهم حياة أخيك أم ساقه وهي مبتورة عند القدم أصلاً ؟؟؟
ذهبت باكياً إلى صديقي الدكتور نازك الفتلاوي فسألته عن الموضوع فقال يجب علينا أن نسرع ونوافق على إجراء العملية فإن حياة سعد تصبح بخطر كبير كلما مضى الوقت ، هنا كان علي أن أقنع أمي والتي أعانها الله تحملت الكثير فأخذتُ صديقي نازك معي لكي يتحدث مع أمي والتي انخرطت بالبكاء حلما سمعت حقيقة الموضوع وخطورته وبعد موافقتها توجهنا إلى مستشفى اليرموك لنجد ( د . صائب المدلل ) ينتظرنا فأعطيناه موافقتنا وذهبنا إلى سعد وشرح له الطبيب الأمر وكان موقف سعد رائع في تقبل الموضوع وقال هذا قدر الله وأمره وما علينا إلا الصبر لكي ننال أجر الصابرين.
أجريت العملية وخرج سعد وقد بترت ساقه اليمنى وأثناء إجراء تبديل الضماد الطبي كان يغمى عليه أحياناً وكانت الممرضات ينخرطن بالبكاء عليه لصغر سنه وتحمله و هو يردد آياتٌ من القرآن الكريم وأبياتاً من الشعر عن الصبر والابتلاء وتحمل الأذى .
هكذا بدأت أمي وأهلي مشوار آخر في مكان أخر مع أخ ٍ أخر ، وهنا أوكد بأن عائلتي ووضعها لا يختلف عن أوضاع العائلات العراقية الكريمة التي ابتليت وهي ترى أولادها يُقتلون أو يُعاقون أو يُؤسرون أو يُفقدون ، كانت أياماً وأعواماً وعقود ٍ زمن ٍ لن تنسى خصوصاً لأجيال كانت مصدومة مما تراه وما تحيى تحت وقع ِ تأثيره وهي التي حلمت باستمرار عالم الطفولة والبراءة إلى سنين العمر كلها .
اليوم بعد مضي ربع قرن على تلك الإحداث بودي أسال هل يعرف القائمون على الحروب ماذا يعني صعود طفل صغير يحبو إلى أعلى السلم ُ أو مكان ٍ مرتفع ٍ وأبيه ينظرُ إليه وقلبه يكاد ينخلع هلع ٍ عليه وهو لا يقدر على حمل أبنه حبيبه ويجنبه السقوط ؟ ذلك لأن يداه بدلاً أن تحمل أطفاله قد حملت عكازه ؟
وهل يعلم المداحون والمنافقون ماذا يعني أن تفقدَ يديك الاثنتين معاً أو أطرافك السفلى والعليا فتحيى على كرسي ٍ متحركٍ طوال عمرك وكأنك قد غادرت الحياة وأنت في عز الشباب وعنفوانه ؟
ثم سؤالي إلى كل صاحب ضمير حي ونقي ألم يكن بإلامكان تجنب الحروب والويلات ؟
ألم يكن من واجب من أشعل الحروب أن يقوم بخدمة ضحاياها ويوفر لهم الحياة الكريمة ؟
ألم يكن الاجدرى بأصحاب القرار أي قرار حتى لو كان قرار صغيراً غير ذي شأن أن يتقوا الله ؟ أو على الأقل أن يحترموا أهلهم وناسهم حينما يهمون بوضع توقيعهم على الورق ؟
ألم يكن الأفضل لهم أن يتجنبوا صفحات التاريخ وحسابها ؟
سوف نواصل بإذن الله تعالى الخوض في هذه السيرة رغم مرارتها وقسوتها لكي نكشف جوانب عديدة تعرض لها أبناء العراق ومن كل الجهات وبما فيها اللجان الطبية والخدمية والاجتماعية راجين أن نُسهم في تسجيل شهادة حية لما جرى والله الشاهد والمطلع على ما نقول .
وللحديث بقية إن كان بالعمر بقية بإذن الله تعالى .....
818 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع