قراءة في فن الحروب المعاصرة

                                           

                    الدكتور مهند العزاوي*

قراءة في فن الحروب المعاصرة
سمات الحرب المركبة

تعددت تعاريف الحرب وتختلف حسب طبيعة البيئة والزمن والمسرح العسكري وشكل الأهداف وحجم الموارد المخصصة لها , وكثيرا ما تتسق الحرب بأهداف السياسة , خصوصا ان الحرب ظل سياسة القوة على الأرض , وقد كتبنا مقالات متعددة عن الحروب الحديثة المعاصرة التي عصفت بالشرق الأوسط منذ عام 1991 وحتى اليوم , ولعل ما نعاصره اليوم من حروب مختلفة نسبيا في اساليبها وأهدافها وتضاريس ديموغرافيتها عن الحروب السابقة التي كانت ذات طابع نظامي بين جيوش متبادلة لدولتين او تحالف عسكري وجيش لدولة ما
يعرف المنظر العسكري "كارل فون كلاوزفيتس"[1] الحرب على انها (( نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات الغير منسجمة، حيث ان الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي)) كما وقال في كتابه "عن الحرب" أنها " (عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم عبر وسائل مختلفة), ويعبر عن الحرب بانها "تفاعل بين اثنين أو أكثر من القوى المتعارضة والتي لديها "صراع في الرغبات " وبما أن الجوانب الاستراتيجية والتكتيكية للحرب تتبدل دائما، فإن النظريات والمذاهب المتعلقة بالحرب غالبا ما تصاغ قبل، أثناء، وبعد كل حرب كبرى, وقال "كارل فون كلاوزفيتس"   (إن لكل عصر نوعه الخاص من الحروب، والظروف الخاصة، والتحيزات المميزة), ولذلك ان ملامح الحروب المعاصرة مختلفة في الاستراتيجيات والاهداف والأساليب والتكتيكات والموارد وشكل شرعية الحرب , وقد اطلقنا عليها مصطلح "الحرب المركبة"[2] منذ عام 2010 ولأجل اغناء هذه الظاهرة حيث نكتب مقالات بشكل دوري عن الياتها واساليبها وسماتها تمهيدا لوضعها في كتاب يتكلم عن  ظاهرة "الحرب المركبة" كظاهرة حربية معاصرة .
تختلف آليات اعداد الحرب المركبة عن الحرب النظامية لاسيما في انتخاب الأهداف العسكرية والموارد الحربية المشاركة وشرعية الحرب والقوة وكذلك كلفة تحقيق الأهداف السياسية, وكذلك الاستراتيجيات السوقية والتكتيكات التعبوية المتعلقة بالتعبية الصغرى وسنستعرض بشكل موجز بعض منها وكما يلي
تقاطع الأهداف السياسية
نمط الحرب المركبة هو نتاج لخصصة الحرب واتساع تجارة الامن القومي وكذلك الفوضى السياسة وتراجع دور الدولة لصالح ظاهرة "المليشيا سلطة" مع انتشار ظاهرة الدول الفاشلة الزاحفة التي تعجز عن احكام السيطرة على حدودها السياسية وصيانة مجتمعاتها وادامة قواتها المسلحة , وممارسة آليات الحوكمة وفق عناصر المسألة والافصاح والشفافية  التي تمنع الفساد والافساد الذي اصبح ظاهرة مستفحلة تعزز ظاهرة الإرهاب المحلي والوافد[3] , ولعل هذا النمط حقق اهداف سياسية متقاطعة لعدد من الدول وابرزها سياسة تفتيت الدول واستبدالها بدويلات صغيرة تشكل المادة الأساسية لحروب طويلة الأمد وصنفناها بالحرب الدافئة  .
انتخاب وتحديد الأهداف العسكرية
 يراعى في الحرب النظامية ان تكون الأهداف محددة سوقيا بما يتسق بالعقيدة العسكرية  التي تحدد شكل الأهداف واسبقياتها ودرجة خطورتها واهميتها  حيث يتم معالجتها بالقوات النظامية المدربة على اساسيا فن الحرب ومتسقة بالعلوم العسكرية , ويجري خوض الحرب وفقا لغاية محددة  وعلى شكل صفحات متسلسلة  وفقا للخطط العسكرية التي تضعها القيادة العسكرية العليا , بينما في الحرب المركبة  نلاحظ ان الأهداف مجزئة وليست سوقية , ونجدها تعبوية صرفة تتعلق باستعادة منطقة ما او عارضة طبيعة ما او مدينة  او هدف بشري متنقل يوصف هدف ثمين, ولم تكن هذه الأهداف ذات طابع سوقي استراتيجي بل ذات طابع تعبوي ميداني ضمن سلسلة الأهداف المنتخبة التي تشكل برمتها هدف جزئي ضمن سياق الحرب النظامية , ويذكر التاريخ ان الحروب النظامية انتهت باحتلال دول  وتغير أنظمة سياسية او إيقاف توغل جيش ما او حرب اجهاضية تنتهي بازحة التهديد , وهنا في الحرب المركبة يجري تحقيق الأهداف مع وجود الخطر والتهديد الذي يعالح بشكل مبعثر وعلى شكل تجزئة الأهداف الصغيرة حيث اصبح تحقيق الإنجاز  العسكري الحربي محدودا على سبيل المثال استعادة عقدة مواصلات او منطقة ما او حي سكني  .
اختلاف الموارد الحربية
  تخصص في الحروب موارد عسكرية متعددة ترتبط بسياقات واليات التخصيص المنصوص عليها في العلوم العسكرية وخطط فن الحرب التي تدرس في الاكاديميات العسكرية التخصصية وفقا لنطاق المسؤولية والقيادة , ويلاحظ ان التخصيص يعتمد على تشكيلات نظامية وفقا للقدرات العسكرية المتنوعة الساندة للجيوش كالقدرة الجوية , البحرية , المدفعية , الدفاع الجوي , المروحيات , الخ  لتكون القطعات المشاركة وفقا لنظام معركة الجيوش والفيالق والفرق لتعمل كالنسيج الحربي المتكامل والمتجانس في مسرح العمليات الذي يلتزم به كافة المقاتلين وفقا لقواعد الاشتباك ومفردات التعبية الصغرى واليات فن الحرب المتعلقة بقيادة الوحدات والتشكيلات المقاتلة بنظام قيادة متجانس ذو خبرة قتالية كبيرة , وفي اليات الحرب المركبة هناك تشكيلات قتالية غير نظامية ( قوة لامتوازية) لاتمتلك العقيدة العسكرية المحترفة وهذه التشكيلات بالغالب تحمل عقائد دينية وقومية , ويجري ادراجها ضمن الخطط الحربية المقترنة بالقوات النظامية , ويقدم لها الاسناد من قدرات جيوش نظامية كبرى دولية وأخرى إقليمية فاعلة اسوة بالتشكيلات النظامية , بل تعدت ذلك الى الاقتران الغير مباشر مع تلك التشكيلات المسلحة الغير نظامية خصوصا فيما يتعلق بالاسناد الجوي وتقديم الدعم الناري والمعلومات والتدريب .. الخ , وهنا يبرز التحول في نمط واليات الحرب المعاصرة , بعد ان كانت هذه التشكيلات الغير نظامية محظورة دوليا  لما تمارسه من انفلات وعدم التزام بقواعد الاشتباك وسلوكياتها الحربية المتسقة بالتوحش المنافي لحقوق الانسان , وقد أصبحت هذه التشكسلات شريك حربي يخوض حروب الإنابة لتحقيق اهداف سياسية متعددة لدول متعددة وقد اطلقنا عليها "الحرب الدافئة" التي يطول امدها لسنوات وأهدافها مبعثرة مجزأة الى مراحل تتسق بمعاير ما اطلق عليه "حدود الدم" لرالف بيترز 2006 التي تحقق التفتيت للجيوبولتيك القائم[4]  .
الشرعية القانونية والمكتسبة  
كثيرا ما تشن الحروب وفق قوانين اممية واحيانا يجري تخطي هذه القوانين وتشن الحروب بشكل خارج اطار الشرعية الدولية , او يجري احتكاك حربي يقود لحرب وتلك الحروب  تأخذ طابع الحروب النظامية , بينما موارد "الحرب الدافئة" بسمتها المركبة تخوض حروب متعددة ولفترات زمنية تفوق زمن الحرب النظامية ولكن دون شرعية قرار الحرب او طلب رسمي  لدولة ما , ويتم اكتساب الشرعية وفق مبدا الواقعية وتتطور لتصبح قوة فاعلة تفوق قدرات الدولة  وكما حصل في لبنان وسوريا والعراق واليمن والصومال والسودان وليبيا نماذج  واقعية لبيئة ومناخ تشكيلات الحرب المركبة التي تزاحم الدولة وقواتها المسلحة في التاثير والقرار والتمويل وامور أخرى .
تحتاج الحروب المعاصرة الى افق مفتوح ودراسة مستفيضة خصوصا في ظل سوق الحرب والامن ومناخ محاربة الارهاب وتعالي ضجيج الاعلام وصخب الدعاية ولعل ظاهرة "الحرب المركبة" أيضا تحتاج الى  متابعة ودراسة ملامحها وسماتها والياتها والتي تعد نمط حربي جديد في مسرح الحروب المعاصرة , خصوصا ان هذه الظاهرة فاعلة ومتفاعلة في مسرح الشرق الأوسط تحديدا ولم تعد محدودة في رقعة جغرافية ما بل أصبحت نمط متدحرج نشهد ملامحه في مواقع متعددة من الشرق الأوسط ,  وكما يبدو انها ظاهرة حربية غير مكلفة لصانع الحرب ومكلفة بشريا ومعنويا للدولة  الاخرى .
*خبير استراتيجي – عسكري عراقي متقاعد
‏2017‏-04‏-02

[1] . كارل فون كلاوزفيتز (بالإنجليزية: Carl von Clausewitz) (ولد سنة 1780 في ماغدبورغ الألمانية وتوفي سنة 1831 في بريسلاو) جنرال ومؤرخ حربي بروسي. من أهم مؤلفاته كتاب (Vom Kriege) أي: من الحرب. تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرا عميقا في المجال العسكري في البلدان الغربية. تدرس أفكاره في العديد من الأكاديميات العسكرية كما أنها تستعمل في عدة مجالات مثل قيادة المؤسسات والتسويق. ويعتبر من أكبر المفكرين العسكريين شهرة وتأثيرا على مر التاريخ
[2] . انظر مهند العزاوي , ظاهرة الحرب المركبة , مقال منشور في موقع مركز صقر للدراسات  والبحوث الاستراتيجية .
[3] . انظر مهند العزاوي , عولمة الارهاب , مقال منشور في موقع مركز صقر للدراسات  والبحوث الاستراتيجية
[4] . رالف بيترز، جنرال أميركي متقاعد. , تم نشر الدراسة (Blood Borders)في مجلة أرمد فورسيس (القوات المسلحة الأمريكية) بتاريخ يونيو 2006

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

678 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع