محمد حسين الداغستاني
من الحقوق المقدسة للفرد في أي مجتمع متحضر يحترم خيارات الإنسان ويلتزم بتأمين الحقوق الأساسية له ، تأمين الظروف المناسبة أمامه ليمارس حرية التعبير، وخلق البيئة الآمنة أمامه ليدلي برأيه بحرية تامة ودون قيود وتبني الرأي و الرأي الآخر ، ودعم الوسائل والأدوات السمعية والمرئية التي تلتزم بالحيادية والإستقلالية لكي توفر له حق الحصول على الحقيقة والمعلومة الصادقة النزيهة بعيداً عن القسر والتطرف والتعصب والإنجرار الى العنف كوسيلة يسيرة لفرض العقائد والقناعات المختلفة .
لقد إلتفتت المجتمعات المتحضرة في الدول المتقدمة وفي المقدمة منها الجمعية العمومية للأمم المتحدة الى أهمية وخطورة حق الإنسان في التعبير والحصول على المعلومة بإعتبارها من الحقوق الإنسانية منذ وقت مبكر ففي العام 1946و أثناء انعقاد جلستها الأولى، تبنت القرار 59 الذي نص على:(أن حرية الوصول إلى المعلومات حق إنساني أساسي ) ، كما تبنى ميثاق منظمة الأمم المتحدة موضوع إشاعة قيم الحرية وحرية التعبير والرأي بمختلف صورها ووسائلها، وتواصلت الجهود الدولية دون كلل على هذا المسار وتوجت ثمرة هذه الجهود بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948، حيث جاء في المادة (19) منه (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية) أما (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية) الذي تم إقراره في إطار منظمة الأمم المتحدة عام 1966، فقد نصت الفقرة الثانية منه على أن " لكل شخص الحق في حرية التعبير، وان هذا الحق يشمل حرية البحث والتلقي ونشر المعلومات والأفكار مهما كان نوعها بدون اعتبار للحدود وعبر صيغ التداول الشفاهي أو عبر الكتابات والنشريات أو الأشكال الفنية أو غيرها من الوسائل التي يختارها". كما أنه ونتيجة لما ورد في اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية، اللاحقة فإنه لم يتم وضع حرية المعلومات بشكل منفصل بل كجزء من الحق الأساسي لحرية التعبير الذي يتضمن حق البحث وتلقي ونقل المعلومات.
وكما هو معلوم فإن حرية التعبير في وسائل الإعلام كافة ومنها الصحافة تتصل إتصالاً وثيقاً بمقدار الجدية في تأسيس مجتمع ديمقراطي متعدد ومفتوح يدرك تماماً بأن حـق الجمهور بالحصول على المعلومات يكمن في حرية التعبير أيضاً فضلاً عن ممارسة النقد والرقابة على الأداء اليومي للحكومة والأجهزة التابعة لها أو برصد الإتجاهات المنحرفة ومظاهر الفساد في المجتمع والقائمين على إشاعتها ، وأنه بدون هذا الحق ستضعف الحقيقة وستبقى مشاركة الناس في صنع القرار ناقصة بل و مجزئة.
ويرتبط حق حرية التعبير والنقد البناء وإعتماد الإستقلالية بعيداً عن هيمنة الحكومة والأحزاب والتيارات المختلفة إرتباطاً وثيقاً بوتائر التنمية في المجتمع وهذا ما ذهب إليه مقرر اللجنة الخاص في الأمم المتحدة في تقريره السنوي إلى اللجنة في العام 2002، حيث أشار إلى أهميتها الأساسية ليس بالنسبة إلى الديمقراطية والحرية فحسب بل للحق بالمشاركة وتحقيق حق التنمية كما أكد قلقه بشأن توجه الحكومات والمؤسسات الحكومية نحو منع الناس من الحصول على المعلومات التي من حقهم الحصول عليها . إضافة الى الممارسات الإرهابية التي تستهدف إسكات صوت الحق وتغييب الحقيقة وكم الأفواه ومصادرة الأفكار بالإكراه وخاصة في الصراعات القومية والدينية والطائفية منها بشكل خاص .
الإستقلالية وتحديات القرن
ولاشك أن الدولة بكل مؤسساتها وسلطاتها ( وبضمنها الحكومة) تتحمل بصورة فعالة ومباشرة مسؤولية الحرص على تطبيق بنود حقوق الإنسان المسنة في التشريعات الدولية والعمل الدؤوب لتعميق ثقافة التعبير الحر والمستقل بكافة الوسائل المتاحة ، وعدم التطير من النقد الديمقراطي البناء الذي يشكل اللبنة الأساسية في تصحيح الأخطاء وتقويم العمل والإرتقاء بحياة الإنسان الى مستوى من الوعي والتحضر اللذين يتناسبان مع تراث الإنسانية العريق والطويل القاطع لخطوات زمنية ثابتة في مسار القرن الحادي عشر والذي يشكل بحد ذاته تحدياً للإنسان المعاصر في فهم معادلة الحياة التي تشكل توازنها فرصة لإضافة قيم جديدة تعزز متانة النسيج الإجتماعي والإنساني للأفراد والمجتمع ككل .
وعندما نتطلع الى ترجمة هذه المفاهيم في جو من الحرية والمهنية ، وفي خضم السيل الجارف للنتاج المبرمج والمسيس (المتمثل بالفضائيات والمحطات الإذاعية والصحف والمجلات والمواقع الألكترونية التي تناسلت وتزايدت بكيفية اسطورية ) الهادف الى إغراق الرأي العام بالأفكار المسبقة بصورة منتظمة ومستمرة على أيدي وبعقول وملاكات صحفية واعلامية محترفة بعيدا عن مخاوف التوقف أو التلكأ أو الغلق نتيجة إغداق الحكومة والأحزاب والتيارات السياسية الكبيرة الأموال عليه بإسراف وكرم لامثيل لهما ، لما لدوره الفاعل في تحقيق برامجها الخاصة في تغيير قناعات المواطن العادي أو تعميقها لصالحها ، فإننا سنجد الحاجة ماسة الى إقرار إستراتيجية على المديين القريب والبعيد تتولى الحث على خلق وإدامة وسائل إعلامية وصحفية متزامنة أو بديلة لما موجود في الساحة الوطنية تتصف بالحيادية والإستقلالية تستمد قوتها من إيمانها المطلق بالرأي والرأي الآخر، وبحق المناقشة وتبادل الأفكار، وبتوفير الأجواء الصحية السليمة أمام المتلقي لإتخاذ القرار الذي يجده مناسباً في مواجهة المعضلات السياسية والفكرية والإجتماعية دون تأثير مسبق أو تدخل مباشر أو غير مباشر من أية جهة كانت وبعيداً عن التأثيرات السلبية للصراعات السياسية المتباينة أو القومية أو الدينية الطائفية التي تعصف بالبلاد . الخ .
هنا نجابه بوضوح مشكلة تأمين المناخ الضروري لإدامة الموارد والإمكانات النزيهة والضرورية لإستمرارية المشاريع الإعلامية والصحفية المستقلة وغير المنحازة و التي هي جزء من حقوق المواطن في ظل أي نظام يزعم أنه يتكأ على الخيارات الديمقراطية وحقوق الإنسان ، كما وتتفاقم المشكلة عندما تجابه وتنتقد هذه الإصدارات المحدودة عادة الطروحات و المفاهيم السياسية أو المركزية المهيمنة على مقاليد الأمور أوتعوق دون إشاعة القناعات العقائدية والفكرية الأحادية ، فتلقى نتيجة لذلك مساحة تعاطف واسعة مع القاعدة الشعبية وتتحول الى نوافذ مشرعة يطل عبرها الإنسان العراقي المكدود على فضاء الحرية وتكون الأداة الفعلية الجاهدة للتعبير الحقيقي عن طموحاتها وتطلعاتها المشروعة على الأصعدة كافة ثم ستجعل من نفسها قناة المواطن الآمنة لإطلاعه على الحقائق وما يجري من حوله دون تزويق أو تضليل.
الدولة والمجتمع أمام مسؤولياتهما
إذا كيف لنا أن نوفر الأجواء الصحية أمام صمود وديمومة الصحافة ووسائل الإعلام السياسية أو الفكرية أو الإجتماعية أوالثقافية المستقلة ، إن كنا حريصين فعلا على تطبيق النظام الديمقراطي الحر؟ لا شك أن مسؤولية الإجابة على هذا السؤال تقع على كاهل الدولة والمجتمع معا ذلك لأنها تتطلب إعتماد الإجراءات التشريعية والمادية التي تؤمن لهذا الاعلام الحماية والنمو والإزدهار بعيدا عن مختلف أشكال الضغوط والترهيب والتعنيف . فعلى الصعيدين التشريعي والمالي فإن على الدولة والبرلمان توفير الظروف والمناخات الآمنة لخلق تيار إعلامي وصحفي مستقل وذلك من خلال المقترحات الآتية :
• العمل على تشريع قانون خاص يسن بموجبه تأسيس ( هيئة وطنية لرعاية الصحافة والإعلام المستقل) وحماية العاملين فيها ترتبط بالبرلمان و يشترط في قيادتها وإدارتها إنتقاء عناصر وطنية مستقلة معروفة بنزاهتها ، وإستقلاليتها التامة عن النفوذ والهيمنة الحكومية والأحزاب والتيارات المختلفة . و تعمل هذه الهيئة على إختيار وتحديد الوسائل الصحفية والإعلامية المستقلة التي عليها أن توفر لها دعما ماليا سنويا مجزيا لإعانتها على التغلب على مشاكل التمويل إضافة الى توفير المطابع والضرورات التقنية الفنية الحديثة لها وتخصيص حصة لها من إعلانات الشركات والمنشئات والدوائر بشكل عادل وشفافية عالية .
• تأسيس صندوق بإسم (صندوق دعم ورعاية الاعلام و الصحافة المستقلة ) يكون تحت إشراف الهيئة المستقلة المستحدثة ،على أن يلزم قانون التأسيس الشركات والمؤسسات والمصارف والمصانع الكبيرة تغذية الصندوق بجزء من أرباحها السنوية مقابل حوافز تمنح الجهات المانحة بموجبها خصومات وإعفاءات ضريبية تتوافق مع نسب تلك المنح والتبرعات .
• تنشيط دور نقابة الصحفيين العراقيين في مجال دعم ورعاية الإعلام والصحافة المستقلة بمختلف القدرات المتاحة .
• تضمين قانون الشفافية المزمع تشريعه نصوصا واضحة تفسر مفهوم ممارسة حرية النقد والتعبير ووضع الحدود الواضحة بينها وبين ما يعرف بجرائم السب والقذف .
• إلغاء التشريعات القانونية التي تتعارض أو تعيق قانون حرية الحصول على المعلومات وتداولها .
3381 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع