أ.د. ضياء نافع
استلمت هدية رائعة لا تقدر بثمن و هي - ثلاثة كتب مترجمة عن الروسية للكاتب بلاتونوف بترجمة الاستاذ خيري الضامن – المترجم العراقي المبدع المعروف , وهذه الكتب هي روايات الكاتب الروسي السوفيتي بلاتونوف ( الحفرة ، بحر الصبا ، الاشباح) , الصادرة في بيروت عن دار (سؤال) للنشر, وبدعم مادي من معهد الترجمة في روسيا الاتحادية, وهي ظاهرة جديدة وخطوة صحيحة من هذا المعهد تشجيعا ودعما لمسيرة ترجمة روائع الادب الروسي عن الروسية مباشرة الى عدة لغات اجنبية بما فيها اللغة العربية .
لقد جاءت كل هذه الروايات بتقديم رائع كتبه الاستاذ عبد الله حبه, والتي هي في الواقع دراسة عميقة وشاملة لابداع الكاتب بلاتونوف ومكانته في تاريخ الادب الروسي و تفصيلات عن سيرة حياته , وقد نشرت هذه الدراسة كاملة في تقديم رواية ( الحفرة ) , ولكن مسؤول دار النشر - على ما يبدو - قرر ان يكرر امام روايتي (الاشباح) و(بحر الصبا) تلك المقاطع الخاصة بهما من تلك الدراسة , وحسنا فعل , اذ ان الصورة الفنية عندها اصبحت اكثر تكاملا فعلا امام القارئ العربي مع تلك المقاطع . لقد نشر عبد الله حبه دراسته هذه تحت عنوان ( بلاتونوف كافكا الروسي ومحنة الانتلجينسيا الثورية الروسية ) قبل سنوات , وحظيت عندها باعجاب القراء , لانها تعد واحدة من الدراسات العربية النادرة جدا حول هذا الاديب الروسي شبه المجهول للقارئ العربي , اذ تناولت سيرة حياة بلاتونوف الحافلة بالصعوبات الهائلة اثناء تلك الفترة المتشابكة من تاريخ روسيا في بداية العشرينات بعد ثورة اكتوبر 1917 وما رافقها من أحداث جسام . توقفت هذه الدراسة طبعا عند النتاجات الاساسية لبلاتونوف وخصائصها, وجاءت هناك آراء تثير نقاشات متعددة ومتنوعة حولها , بل وحتى خلافات فكرية و سياسية بشأن بعض جوانبها , اذ ان الصورة عن الواقع السوفيتي كانت مظلمة وسوداوية فيها لدرجة ان احد الاصدقاء قال لي , ان كلمة ستالين عن هذا الكاتب , والتي جاءت على الغلاف الاخير لرواية الحفرة , هي صحيحة , وكلمة ستالين هذه كما يأتي – ( هذا كاتب خبيث. فهل يعقل ان رواد حركتنا التعاونية بهذا القدر من الخسّة والدناءة كما يصورهم؟ ), ولا مجال للتوقف تفصيلا عند كل ذلك ضمن هذه المقالة , ولكن مع ذلك يمكن القول اجمالا و بلا أدنى شك , ان الصورة العامة التي رسمها عبد الله حبه في مقالته تلك للكاتب الروسي بلاتونوف كانت صائبة ودقيقة تماما , وكانت تتناسق وتنسجم فعلا مع تلك الروايات شكلا ومضمونا وتساهم في اكمال الصورة الفنية لهذا الكاتب امام القارئ العربي.
تذكرت - عندما بدأت بقراءة هذه الروايات - مقالة طريفة كتبها الدكتور فالح الحمراني قبل فترة قريبة , وكانت بعنوان (الحفرة ام الاساس ؟ في ترجمة اندريه بلاتونوف) , والتي تناول فيها عنوان رواية بلاتونوف ( الحفرة ) كما جاءت بترجمة الاستاذ خيري الضامن (دون ان يذكر اسم المترجم). ومقالة الحمراني هذه كانت موضوعية وهادئة بشكل او بآخر, الا انها تحمل وجهة نظر تختلف نوعا ما بشأن ترجمة عنوان الرواية , اذ انه يرى ان العنوان يجب ان يكون ( حفرة الاساس ) كما هو عند بلاتونوف حرفيا , او ( الاساس ) في الاقل , وليس (الحفرة ) كما جاء بالترجمة العربية. ان عنوان ( الحفرة) – كما جاء في ترجمة الضامن وفي مقدمة عبد الله حبه ايضا - أرشق وأجمل كما يبدو لي من ( حفرة الاساس) رغم انه العنوان الاصلي عند بلاتونوف , اضافة الى انه يعبّر عن المعنى المطلوب والصحيح بشكل عام , الا ان المترجم , من وجهة نظري , كان يمكن له فعلا ان يشير الى ذلك ولو بهامش صغير في الكتاب المذكور, خصوصا وان العنوان الاصلي بالروسية مثبّت على الصفحة الثانية. وعلى الرغم من ان مقالة الحمراني تلك كانت تؤكد على هذه النقطة بالذات قبل كل شئ مع بعض الملاحظات الاخرى , الا انها ( اي المقالة ) أشادت – في نهايتها - بالعمل الذي قام به المترجم , واعتبرته اضافة جيدة ستشغل مكانتها الجديرة بها في الحياة الثقافية العربية . لقد ترجم شيخ المترجمين العرب الدكتور سامي الدروبي عنوان رواية ليرمنتوف ( بطل من هذا الزمان ) بدلا من عنوانها الاصلي ( بطل زماننا ) , ولا زال هذا الاجتهاد الجميل سائدا في( زماننا !) ولحد الآن , وهذا ما اتوقعه لرواية بلاتونوف ( الحفرة ) عنوانا ونصا ادبيا بترجمة الاستاذ خيري الضامن, لأنها تتناول الحقيقة المرّة حول نظام الكلخوزات والسفخوزات في الفترة السوفيتية , وما صاحبها من خروقات انسانية رهيبة عانى منها كل المجتمع السوفيتي , وكم اتمنى ان يقرأ هذه الرواية – وبامعان - هؤلاء الذين لا زالوا يتحدثون ( ولا اريد استخدام فعل يثرثرون ) في مجتمعاتنا عن (المزارع التعاونية !) , اذ انها ( اي الرواية) شهادة تنطبق عليها بالضبط الآية الكريمة – وشهد شاهد من أهلها !
تدور احداث الرواية الاخرى ( بحر الصبا ) عن نفس الموضوع ايضا , اي نظام السفخوزات , وذلك عبر حياة مديرة السوفخوز بوستالويفا ومفاهيمها الاخلاقية وتصرفاتها من اجل (تمشية الامور!) . وكم تبدو الصورة الفنيّة (سريالية وغريبة ورهيبة!) في تلك الرواية للقارئ العربي الذي لا يتفهم التفاصيل ولا يمكن حتى ان يتصورها , لانه لا يعرف واقع تلك السنوات العجاف كما يجب.
الرواية الثالثة ( الاشباح ), والتي يشير عبد الله حبه في مقدمته التي أشرنا اليها اعلاه , الى ان عنوانها الاصلي ( الجان ) , وهو مثبّت بالروسية على الصفحة الثانية فعلا . تتناول هذه الرواية موضوعا آخر لا علاقة له بنظام الكلخوزات والسفخوزات , وهو واقع الحياة السوفيتية في جمهوريات آسيا الوسطى بعد انتصار ثورة اكتوبر 1917 في الامبراطورية الروسية , وكيف سارت وتيرة الحياة السوفيتية الجديدة في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي في تلك الجمهوريات الشرقية, وكيف تفاعل بطل الرواية نزار شاغاتايف في اجواء الحياة في موسكو و اوزبكستان ... الرواية هذه مليئة بالمقاطع الشاعرية المدهشة الجمال(بعضها يكاد ان يكون قصائد نثر) , والمرسومة باسلوب بلاتونوف الرائع والمتميّز بكل معنى الكلمة , والتي أبدع خيري الضامن بترجمتها الى العربية بشكل أمين وحافظ على نكهتها العطرة الفوّآحة , ولا مجال هنا – مع الاسف – لتقديم نماذج منها . يفهم القارئ ( ربما بعد هذه الرواية بالذات ) معنى كلمة ارنست همنغواي (بكل قامته الادبية) حول بلاتونوف وعمقها وهي كما يأتي – ( بلاتونوف من الكتّاب القلائل الذين ينبغي ان نتعلم على أيديهم), هذه الكلمة المثبّتة (وليس ذلك عبثا على ما يبدو) على غلاف تلك الرواية.
لقد قام خيري الضامن بعمل ابداعي هائل الاهمية والقيمة عندما قدّم لنا وبدفعة واحدة ثلاث روايات لبلاتونوف , وهو عمل قلّما يجود به المترجمون المبدعون . خيري الضامن كان ولا يزال في طليعة اسماء المترجمين العراقيين الكبار طوال اكثر من نصف قرن من الزمان , منذ ان قرأنا له في مجلة ( الآداب ) اللبنانية في بداية النصف الثاني من القرن العشرين , وعبر كل ترجماته في دور النشر السوفيتية في السبعينات والثمانينات , وخلال كل نشاطاته في مجال الترجمة الادبية بشكل خاص وفي مجمل مسيرته الابداعية بشكل عام .
تحية للمترجم العراقي المبدع الكبير خيري الضامن وتصفيق حاد له .
1075 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع