الدكتور مهند العزاوي*
اكدت الأوساط الامريكية بان غزو العراق كان خطا كبيرا , خصوصا ان موقف الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" كان واضحاً وصلباً انتقد فيه غزو العراق وازاحة دوره المحوري في تحقيق الامن والسلم الدولي ومكافحة الإرهاب [1],
وفي الحقيقة انه ليس خطا بل "خطيئة استراتيجية" كونها أصبحت "متلازمة نازفة" وحقل تجارب لكافة الأفكار الشاذة والأيدولوجيات الدموية والمشاريع التوسعية , حيث جرى تفكيك الدولة العراقية ونهب ممتلكاتها وحل القوات المسلحة وابعاد الطبقة الوسطى تحت مسمى الاجتثاث المثير للجدل , خصوصا بعد ان جرى اقتباس النظام السياسي 2005 من "اللبنة الطائفية" وفق نظام محاصصة طائفية واثنية مثيرة للجدل بعد ان ارسى دعائمها المبعوث الاممي "الأخضر الابراهيمي" مع الاخذ بنظر الاعتبار ان العراق لم يخوض حرب أهلية او اقتتال داخلي يجعل نظامه السياسي كدولة طوائف ومكونات كما جرى في لبنان , ومن هنا بدأت "ظاهرة الطوفان" لتكتسح كل مقومات الامن المجتمعي والتلاحم الوطني ومهنية المؤسسات وخطط الدفاع عن العراق , ليصبح العراق الآمن المستقر مسرحا لنفوذ التنظيمات الإرهابية والمليشيات الطائفية المتعددة الجنسيات مما عزز مقومات "الحرب الديموغرافية" ذات البعد الأيديولوجي المبني على خرافات واساطير تاريخية تعود 1400 سنة مضت لتغييب الوعي الوطني والتلاحم المجتمعي , ليحل بدلا عنه شلالات الدم النازفة والأيام الدموية التي لم تنقطع طيلة عقد واكثر من الزمن في العراق الديمقراطي .
النظام جذر السياسة
تشكل مواد العلوم السياسية والنظم السياسية والدساتير دليل عمل لأي نظام سياسي في العالم , , وكما يبدوا ان العراق خالي من هذه السياقات العلمية والتطبيقية , ولأجل الدقة وعدم اللف والدوران فان معضلة العراق تكمن في المأزق الحرج المتمثل بما يلي :-
1.هشاشة النظام السياسي وعدم ملائمته للخصائص الجيوبولتيك العراقي ودوره المحوري في قاعدة التوازن الإقليمي الدولي , وتحول النظام السياسي الى سلطة رمال متحركة يتلاعب بها عناصر الضغط والنفوذ الخارجي والإقليمي خصوصا الجيوش اللامتوازية المنتشرة ذات العقيدة الطائفية التي تستمد وجودها من غياب النظام السياسي وتراجع قوة الدولة كما وتغذي ديمومتها اساطير وخرافات تاريخية مذهبية وافدة .
2.كارثية التحول السياسي الأمني الذي جرى بعد 2014 وظاهرة الطوفان الأمني بعد ان سيطر "داعش" على ثلث العراق ب800 مقاتل وفد غالبيتهم من الحدود السورية[2] , ثم تحولوا من هدم الاسوار الى انشاء دولة وهمية هشة عنوانها القتل والتهجير والإرهاب ونهب الثروات العراقية , وتحطيم تاريخ العراق واثاره الباهظة الثمن وهدم موارده البشرية والمادية والمالية , وبذلك حقق هذا الطوفان مردودات استراتيجية لدول المحور الجيوقاري الاسيوي خصوصا الإقليمية منها التي حققت "سياسة الوصول ضمن استراتيجية التواجد والتمدد في قلب العالم العراق" وقد أصبحت ملامح هذه السياسات واضحة من خلال النفوذ الحربي اللامتوازي وشكل الإرادة الضاغطة على الواقع السياسي العراقي .
3.خطيئة الإدارة الامريكية السابقة بإدارة الرئيس الأمريكي السابق "أوباما" ونائبه "جو بايدن" بترك العراق يصل الى حافة الهاوية ثم الطوفان ليغرق بشذوذ سلوكيات السياسة الطائفية التي صنعت مناخ بروز "داعش" وسهلت توغله [3], ومنحت الحصانة القانونية للمسببين الأساسيين لهذا الطوفان الذي كلف العراق والمنطقة والعالم خسائر كارثية يصعب احصائها , ويمكن التأكد من ذلك من خلال مشاهدة فلم وثائقي امريكي يتحدث عن الأسباب التي أدت الى سقوط الموصل و صعود الدولة الإسلامية يشرح بوضوح ذلك .
4.محاربة الإرهاب تتطلب قدرات مختلفة ومعالجة سياسية وفكرية وإعلامية وامنية وعسكرية مما يولد الامن الانسيابي الذي يحقق التلاحم بين الدولة والمجتمع ودرء الاخطار والتهديدات , وهذا ما طرحناه في مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ضمن محور اثر التنظيمات المتطرفة على مناطق النفط 2015, وهذا لم يتم خصوصا الجانب السياسي الذي اقتصر على منح مناصب تخضع لمعايير المحاصصة الحزبية وتقاسم المنافع .
5.غياب الإرادة الوطنية الجامعة في حماية الحدود السياسية العراقية وممارسة التقطيع الصلب ضد مكونات المجتمع العراقي من خلال صناعة "الحرب الطائفية النازفة" , وهي من ابرز مظاهر "الحرب الديموغرافية" الشاملة ليصبح ابن البلد عدو افتراضي أينما وجد , وصاحب السلطة المنقذ والمدافع عنه, وبذلك اصبح الكتلة الحيوية الديموغرافية العراقية محتربة متقاتلة بل ونازفة الى الجوار الإقليمي والمجال الحيوي الدولي , وتلك صناعة مخابراتية سياسية نفذها السياسيون الوافدون ما بعد 2003
6.ضعف الإجراءات الوطنية في معالجة الطوفان وبدل من ان يكون هناك نفير وطني شامل لحملة لاستعادة الأراضي المسلوبة جرى تشكيل (حشد شعبي) من طائفة معينة[4] وبفتوى من المرجع الديني في النجف , مما يوحي لغياب القدرة الوطنية والاحساس بالمواطنة او على الأقل اندثار الديمقراطية الموعودة , خصوصا عندما يستأثر مكون بالسلطة على حساب المكونات الشريكة بالوطن , ولم تقف الأمور حد هذا الفعل بل جرى عسكرة العشائر والطوائف الأخرى ليصبح العراق كتلة مسلحة على شفا طوفان اخر اكثر كارثية من الأول .
7.يعد الجيش العراقي السابق من ابرز القدرات العسكرية بالعالم فهو صاحب سجل إنجازات حربية مميز , وبدلاً من الاستعانة بقدرات الجيش العراقي السابق وخبراته في ملحمة وطنية خصوصا انه حافظ على الحدود السياسية وحقق الامن كوليد للدفاع وضمن التلاحم المجتمعي الوطني سابقا , وجرى العكس حيث طلبت السلطات الاستعانة بخبرات اجنبية متعددة الاتجاهات وتختلف في التوجهات والمنهجيات, وقد حولت عمليات الاستعادة الى مسرحا للاحتراب المذهبي والتغيير الديموغرافي , خصوصا ان وحدة الهدف السياسي ينعكس كعقدية عسكرية جامعة , وعندما تتعدد العقائد السياسية والاهداف للوحدات المقاتلة فان الحسم يعد تحدي كبير والنتائج ما بعد المعارك مردوداته كارثية .
8.في خضم الطوفان الخطير الذي اجتاح العراق, يدور في فلكه طلاب المنافع والمناصب حفنة من تجار الحروب والأزمات صانعو البؤس العراقي وسبب نكباته وازماته .
9.يكمن الحل الواقعي في العراق الى إرساء نظام سياسي عصري يوائم البيئة العراقية, ولابد من تفكيك أزمات العراق الى عواملها الأولية , ولابأس ان تعالج حدود الدم الحالية بنظام فدرالي على أساس الوحدة الإدارية وليس فدرالية طائفية او اثنية او عرقية التي حولت العراق الى جحيم .
ماذا بعد الطوفان
منذ اشهر بدأت عمليات سحق وطرد داعش من الأراضي العراقية , وقد تقدمت العمليات بشكل ناجح نسبيا , وتركت خلفها معاناة إنسانية وبيوت مهدمة وازمات معيشية في ظل حالة الحرب المزمنة , واليوم يعلن رئيس الوزراء العراقي عن استئناف العمليات لاستعادة مدينة الموصل وطرد داعش منها , وكما يبدوا ان العمليات قد تستغرق أسابيع , وقد تتزامن مع عمليات بالرقة ومواقع أخرى , خصوصا ان الرئيس الأمريكي طلب من وزارة الدفاع الامريكية وضع خطة للقضاء على داعش وسحقه , وهو امر ليس بالصعب في ظل توفر القرار والقدرات العسكرية والامكانيات , ولكن يبقى السؤال
ماهي شكل الإجراءات المتممة للصفحة العسكرية ؟
ماهو نوع التغيير المطلوب احداثه بالعراق لأجل تجنب طوفان اخر يتسق بحروب حدود الدم ؟
كيف سيتم معالجة الأخطاء التي اعترف بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العراق ؟
هل من حوكمة حقيقة للواقع السياسي العراقي وإعادة الامل للعراقيين بوطن ذو سيادة ينهض من جديد بلباس وطني جديد غير طائفي!
قد يكون تحدي ولكنه ليس مستحيل خصوصا ان غالبية العراقيين على استعداد لبناء وطنهم مهما بلغت التكاليف والتضحيات ليعود العراق لأهله سالما معافى يؤدي دوره الدولي بأحسن صورة .
*رئيس مركز صقر للدراسات الاستراتيجية
2/19/2017
[1] . ترامب: غزو العراق "قد يكون أسوأ قرار" في تاريخ الولايات المتحدة , http://www.bbc.com/arabic/world-38632895
[2] . وثائقي إمريكي : يتحدث عن الاسباب التي أدت الى سقوط الموصل و صعود الدولة الاسلامية "داعش"
https://www.youtube.com/watch?v=tq0JK3cHTYE&app=desktop
[3] . المصدر نفسه , وثائقي إمريكي : يتحدث عن الاسباب التي أدت الى سقوط الموصل و صعود الدولة الاسلامية "داعش"
[4] . يرفض الكاتب استخدام المصطلحات الطائفية رغم واقعيتها السياسية
965 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع