حول مسرحية تشيخوف – بستان الكرز

                                               

                      ترجمة – أ. د . ضياء نافع

كتب المخرج الفرنسي جان- لوي بارو هذه الكلمة خصيصا لمجلة تياتر (المسرح) الروسية اثناء زيارته لموسكو في نهاية ثمانينات القرن الماضي , ولا تزال هذه الافكار – من وجهة نظرنا – مهمة وصحيحة وتستحق الاطلاع عليها.
ض. ن. 

                     

اني اعتبر مسرحية ( بستان الكرز) قمة ابداع تشيخوف.ان هذه المسرحية تمثل النتاج الاكثر شمولية بين المسرحيات الاربع الكبرى التي كتبها تشيخوف للمسرح , المسرحية التي تعبر بدقة متناهية عن الروح الروسية , والتي تنسلخ فجأة عن تلك الروح وتجوب العالم وتوقظ الاصداء في اعماق النفس الانسانية في كل مكان. الحدث في  ( بستان الكرز) يسير بشكل بطئ , مثل الحياة نفسها , مثل جدول رقراق تسمع خرير مياهه , كما لو ان النفس الانسانية تتحدث بهمس. هناك مسرحيات قليلة جدا تثير مثل هذه الاحاسيس الملموسة لمسيرة الزمن...كل القضية تكمن في ان هذه المسرحية  توقظ الحاضر في الذاكرة وبشكل استثنائي.المسرح هو بالذات الحاضر.وهنا يكمن جوهر المسرح.ان الحاضر هو اكثر الاشياء التي لا ندركها في الحياة, ولهذا ليس غريبا اننا لا ندرك (بستان الكرز ) ايضا.
ان الحدث في المسرحية يدور في (السكوت) وفي الملاحظات حول الحوار, ما عدا المقاطع الشعرية التي تقف متفردة...من اجل اجبارنا ( كما في الموسيقى) على الاحساس بالحياة المليئة بالصراع مع الزمن الذي يتحول امام اعيننا وبلحظة واحدة الى مستقبل – مستقبل و ماضي – ذكريات.
هذه مسرحية عن زوال الزمن.لهذا فلا يوجد فرق للانسان, اذا كان محورها روسيا او يابانيا.
(بستان الكرز) ابداع انساني شمولي, ولانها كذلك , يجب ان تصبح  ملكا لجميع الشعوب, جنبا لجنب مع ابداع شكسبير ومولير. لكن , مهما تكن عالمية (بستان الكرز) فاننا لا يمكن الا ان نعطي للروح الروسية حقها, لانها شقٌت لنا الطريق امام هذا التقبل الرهيف للزمن الذي يمضي...
البناء الدراماتيكي للمسرحية موسيقي بشكل عميق, والحاضر هناك سريع وعابر لدرجة ان الكاتب لا يستطيع ان يلحق بتطوير الموضوع الذي يتناوله, وينتقل الى الموضوع الذي يليه بدون ان ينتهي منه...ان هذا (اللااكتمال) لكل لحظة هناك, هو الذي يخلق احساسا بالقلق الاصم وهو الذي يشكل بالنهاية محور المسرحية.
الآن من الشائع التحدث عن وجود الاحداث القليلة في مسرحيات تشيخوف...نعم , فعلا مواضيع مسرحيات تشيخوف بسيطة, ولا يوجد فيها احداث مترابطة, والعقدة فيها غير متشابكة, لكن هذا لا يعني ابدا, ان الاحداث قليلة عند تشيخوف. لا يجوز خلط الحدث والعقدة. في مسرحية (بستان الكرز) الحدث لا ينقطع, انه متوتر ومتكامل, وذلك لان كل لحظة من لحظاته مليئة حتى الاشباع. كل لحظة تمتلك اشباعها الخاص بها. لكن , ليس الحوار هو الذي يخلق ذلك, وانما الصمت والحياة التي تمضي. وهذه الحياة المليئة بالسكوت, وهذه الوحدة المخفية لمواضيع الحدث الزائل , وهذا البطء الحزين ...كل هذا يخلق للممثلين مشاكل مقلقة.
(بستان الكرز) هي واحدة من تلك المسرحيات النادرة جدا التي يمكن للفرقة المسرحية ان تتولع بها, وتنسى بانها على خشبة المسرح, وتصدق بانها عائلة واحدة وان هذا البيت موجود فعلا, وان الحياة الحقيقية تحيط بهم.
هذه الاجواء الساحرية يمكن الوصول اليها فقط بالوسائل الفنية العالمية, اذ ان هذه المسرحية لا ترتبط بالمدرسة الطبيعية كما كان القول سائدا عام 1904, ولا ترتبط حتى بالواقعية بالمعنى الضيق للكلمة. انها ترتبط بالحقيقة , التي تتناسب مع الجانبيين ( الحقيقة دائما ذات جانبين ) تضم في اعماقها الواقعي والشاعري, المرئي والمخفي . واذا شاء القارئ , فانها واقعية شاعرية, كما هو الحال عند شكسبير... ان المحور الذاتي بعمق والاعتيادي للمسرحية يتطور بشكل منتظم من الخاص الى العام...وبطريقة لا يلاحظها القارئ او المشاهد يتحول الاعتيادي واليومي ويصل الى الاجواء الفلسفية.
والشئ الذي يدهشنا اكثر, هو ان هذه المسرحية وهي تبدأ من الذات الانسانية مع عالمها المبتذل, تصل بسرعة الى نطاق المجتمع باكمله. وليس هذا كل شئ – انها تحلٌق , ومن جديد تنعطف نحو الذات الانسانية وتعود اليها, الى الذات الانسانية بالمعنى الاكثر سعة وفلسفة وانسانية وشمولا وهذا بالذات هو الذي يجعل منها مسرحية عظيمة.
(بستان الكرز) مسرحية تتخطى ( الظاهرة الروسية ) البحتة ويتجاوب معها المشاهد بشكل قوي جدا, انها تؤثر فينا من وجهة نظر ( المكان), اذ انها  تصل الى قلب كل انسان على الكرة الارضية, وكذلك من وجهة نظر ( الزمان) , اذ يتحسس كل انسان ان الافكار التي تعبر عنها المسرحية عادلة لكل زمان.
( بستان الكرز) ليست فقط اجتماعية,اذ ان تشيخوف كان استاذا باهرا وكبيرا , لهذا لا يمكن ان يحدد نفسه بالتعبير عن الوسط الاجتماعي وحسب. انها مسرحية شاعر عظيم, ساعدته رهافة الاحاسيس غير الاعتيادية وعمق الروح في الوصول الى منابع الحياة نفسها.
ويوجد هناك درس آخر لبستان الكرز. فعندما كتب تشيخوف هذه المسرحية اراد ان يعرض لنا وبشكل جلي – كيف يجب ان يكون الفنان.اننا نتجنب هذه الكلمة عادة نتيجة للتواضع الكاذب. ان الفنان هو – قبل كل شئ –شاهد لعصره . والفنان , بالتالي, يجب ان يكون خادما مخلصا للعدالة, وانه لا يستطيع ان يخونها من اجل اي هدف من الاهداف... تشيخوف – مثل نادر للفنان العادل بصدق, والذي يستحق بجدارة الاعتراف الشامل من قبلنا جميعا بمكانته تلك...
ويعط ويفوح من مسرحية ( بستان الكرز) التجرد وعدم المحاباة. ان فن تشيخوف هو فن العدالة, وهو الفن الذي يصلح للمسرح الكبير.
وتشيخوف فنان ايضا , لانه يعطينا درسا في ادب السلوك والذوق والعاطفة, وبكلمة واحدة – درسا في العفاف, ولا يمكن ان يكون الفنان عظيما الا اذا تميز بذلك.
ان تشيخوف يعلمنا الحرص على كل كلمة نكتبها, اذ اننا لا يمكن ان نحذف كلمة واحدة من (بستان الكرز). كل شئ يمكن ان يتغربل, غربله تشيخوف. لقد تخلص من كل ما هو فائض...تماما كما كتب معلمنا راسين – (كل ما تقدموه على المسرح, كل شئ يجب ان يكون ضروريا وعلى احسن وجه ).
واخيرا,فان تشيخوف – هو الفنان النموذج ايضا, لأن كل شخصياته مزدوجة, كما هو الحال عند شكسبير...لا يوجد عند تشيخوف بطل نمطي. عند جميع ابطاله توجد صفات معقدة. لا يوجد عنده انسان آلي , ففي كل شخصية من شخصياته يوجد قلب حي ينبض.هذه مسرحية تمس القلب, والقلب اقوى من العقل.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1029 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع