أ.د. ضياء نافع
أصدر احد الزملاء في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد مرة كتابا , ونشر صورته الشخصية على الغلاف الاخير للكتاب وتعريفا بنفسه , وأشار الى انه – ( استاذ الادب المقارن في جامعة بغداد).
تناقشت معه حول هذه الجملة , وقلت له اننا لا نقوم بتدريس هذه المادة العلمية في قسمنا , ولا تقوم الاقسام العلمية الاخرى في جامعة بغداد بتدريسها ايضا , فكيف سمحت لنفسك ان تكتب هذه الجملة المنافية للواقع وغير الحقيقية بتاتا على غلاف كتاب لك صادر في بغداد؟ ضحك صاحبنا دون مبالاة , وقال لي – ( انها كلمات عامة ولكنها تمتلك رنينا خاصا ),ثم أضاف – ( ومن الذي سيدقق مثلك في هذه الكلمات !). تذكرت حديثنا هذا( الذي جرى قبل حوالي ثلاثين سنة في اروقة جامعة بغداد) وانا اتناقش مع احد الاصدقاء في موسكو قبل فترة قصيرة حول ذلك الزميل المذكور , اذ أكٌد لي هذا الصديق ان فلان الفلاني هو استاذ الادب المقارن في كلية اللغات بجامعة بغداد , وعندما قلت له ان هذا الامر ليس صحيحا , اجابني انه يمتلك ( وثيقة!) حول ذلك , وال(وثيقة) هذه هي كتاب صادر في بغداد لفلان الفلاني نفسه , وهو يذكر ذلك على الغلاف الاخير من الكتاب.
مادة (الادب المقارن) لم تدخل ابدا ضمن مناهج التدريس في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد منذ تأسيسه بتاريخ 1 / 12 / 1958 ولحد الان , ولم تكن هذه المادة موجودة ايضا في الاقسام اللغوية الاخرى لجامعة بغداد كافة حسب علمي المتواضع , بما فيها اقسام اللغة العربية , رغم انه قد تم تدريس مادة ( الادب العالمي ) في بداية السبعينات في قسم اللغة العربية في كلية الاداب بمبادرة من قسم اللغات الاوربية في حينها واستمرت سنتين فقط والغيت. ولا يمكن اعتبار هذه المادة العلمية طبعا بديلا عن مادة الادب المقارن , الذي يجري الحديث عنها في هذه المقالة .
كان الباحث عبد المطلب صالح ( وهو خريج الجامعات الفرنسية ) من ابرز المثقفين العراقيين في مجال الدراسات في الادب المقارن , واصدر عدة كتب( منها – مباحث في الادب المقارن / دراسات في الادب والنقد المقارن / موضوعات عربية في ضوء الادب المقارن / دراسات ادبية مقارنة ...) ونشر المقالات حوله, واقترح مرارا تدريس هذه المادة في الجامعة , الا انه لم يستطع تحقيق هذا الحلم العلمي الجميل . وكان لدينا استاذ في قسم اللغة الفرنسية اسمه الدكتور قنبر الطويل , والذي كان قد كتب بحثا ونشره في مجلة كلية اللغات حول الادب المقارن والذي تحدث عن ضرورة تدريس هذه المادة , وظل طويلا يتحدث عن ذلك ولكن دون جدوى . وبرز في قسم اللغة العربية في كلية الاداب استاذ نشر الكثير من المواد العلمية حول الادب المقارن ( منها كتاب دراسات في الادب المقارن التطبيقي) وهو الدكتور داود سلوم , ولكنه لم يستطع ايضا ادخال هذه المادة ضمن المناهج العلمية للقسم , وربما توجد محاولات اخرى في هذا المجال , الا انها لم تنجح مع الاسف , ومنها اقتراح تقدمت به شخصيا الى كلية اللغات لتأسيس مركز او وحدة ادارية خاصة للدراسات العليا في مجال اللغات والآداب المقارنة , ووضعت النقاط الاساسية فيه , ومن جملتها ان يكون القبول لخريجي اقسام اللغات الاجنبية حصرا , وان يكون للطالب مشرفان – واحد متخصص بتلك اللغة الاجنبية وآدابها والثاني متخصص باللغة العربية وآدابها , وان يكتب الطالب اطروحته باللغة العربية في موضوع مقارن . واذكر ان الحديث عن هذا المقترح قد توسع جدا لدرجة , اننا رشحنا الدكتور عناد غزوان كي يكون رئيسا لهذا المركز , الا ان هذا المقترح بمجمله لم يتحقق مع الاسف .
سنحت لي فرصة السفر الى كلية اللغات بجامعة صنعاء عام 2001 للتباحث معهم حول امكانية تاسيس قسم للغة الروسية , وتم تكليفي لالقاء 8 محاضرات في مادة الادب المقارن في قسم اللغة العربية هناك ( بمعدل ساعتين اسبوعيا لمدة شهر) , وكان من الطبيعي ان تتضمن محاضراتي الموضوعة العربية في الادب الروسي وانعكاسها في نتاجات بعض الادباء الروس بحكم اختصاصي في الادب الروسي , وقد تقبل الطلبة هذه المحاضرات بحماس وساهموا في المناقشات بحيوية ونشاط بعد كل محاضرة , وذلك لان الموضوع هذا كان جديدا بكل معنى الكلمة لهم , ولكني ( اكتشفت!) في نهاية الفترة القصيرة تلك ان ادارة القسم كانت ترغب ان اتناول في محاضراتي ليس فقط الادب الروسي وانما كل الاداب العالمية في اوربا وغيرها , وهو شئ يتنافى طبعا ومفهوم الاختصاص العام و الدقيق في اطار العمل الاكاديمي في الجامعة , وقد فهمت - اثناء عملي لمدة شهر هناك - عدم وجود تفاصيل علمية واضحة و محددة لمفردات مناهج تلك المادة , ولا التخطيط الدقيق لاهدافها , ولا الاشارة الى مصادرها العلمية ...الخ , ولم ارغب الدخول آنذاك في تفاصيل ذلك معهم انطلاقا من المثل المعروف – يا غريب كن اديب.
ان مادة ( الادب المقارن) تستحق فعلا التوقف عندها , والتفكير بادخالها ضمن مواد التدريس في الاقسام العلمية بكلية اللغات فقط , شريطة ان يقتصر كل قسم بتدريس الجزء الخاص بقسمه , كي تكون المادة العلمية تلك محددة ومرتبطة بشكل دقيق بادب اللغة التي يقوم القسم بتدريسها حصرا , اما تدريسها بشكل عام استنادا الى كتب موجهة الى القراء ليس الا( مهما تكن هذه الكتب عميقة ورائعة وواسعة ) , فان ذلك يتعارض مع البنية العلمية في الجامعة , لان ذلك يلغي مبدأ التخصص العام والدقيق , وهو النهج الذي تقوم عليه الجامعة منذ بداياتها ولحد الان .
اتمنى ان تناقش اللجان العلمية في كلية اللغات بجامعة بغداد هذا الموضوع من كل جوانبه , وان تصل الى توصية علمية وموضوعية بشأنه.
1237 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع