خالد القشطيني
جئت إلى لندن كتلميذ شاب عام 1953 واتخذتها موطنا لي طوال هذه السنوات الطويلة. شهدت فيها، أي قبل أن يولد الكثير من قراء هذه الصحيفة وكتابها، شهدت فيها وشاركت بالمظاهرات ضد العدوان الثلاثي ورأيت فيها تشرشل تلمع صلعته جالسا في البرلمان يستمع إلى المناقشة بشأن ثورة 14 يوليو (تموز) في العراق. وحضرت المظاهرات الألفية ضد الأسلحة النووية في الستينات. ومشيت وراء مايكل فوت وتوني بن. وطبعا شهدت احتفالات تتويج الملكة إليزابيث. علقت منها في ذاكرتي شتى المشاهد والتفاصيل. وأعتقد أن قرائي يتطلعون لمعرفة ما شهدت.
ولكنني قبل أن أصل إليها، سمعت الكثير عن تلبدها بالضباب. لندن مدينة الضباب. كانت معظم الأفلام السينمائية عنها ملبدة بهذا الضباب. تطلعت لرؤيته بعد أن سمعت أنه في عام 1952 هلك فيها وفي بريطانيا عموما مئات الضحايا الذين خنقهم الضباب في ليلة واحدة. قال لي مدير البعثات: «ترفض الذهاب لأميركا وتريد أن تدرس في لندن. اذهب واشبع من ضبابها».
جئتها متعطشا لمشاهدة ذلك، واثقا بصحة جهاز تنفسي. بعد بضعة أشهر من وصولي رأيت ولمست بأصابعي هذا الضباب. لم يكن مثلما تصورت، مجرد بخار كثيف. كان ضباب لندن خليطا من البخار والدخان المنطلق من مداخن البيوت والمعامل والفنادق. ويعطي هذا المزيج الخانق مادة لزجة تعلق بالملابس والوجوه والأيدي. عليك أن تبادر لغسل نفسك فورا مما علق بها. لهذا أقول: «لمست الضباب».
ومن مصاعب الضباب أنه يصل حدا من الكثافة بحيث لا ترى لأكثر من مترين أو ثلاثة. لا ترى الناس حولك ولكنك تسمع سعالهم. وتواجه المشكلة الكبرى عند قيادة سيارة فلا ترى ما حولك. هكذا شعرت عندما كنت عائدا في احتفالات رأس السنة، بشجرة كبيرة بالمناسبة شددتها فوق سيارتي. صاح بي شرطي المرور «تضع شجرة فوق سيارتك! سيتصورها بقية السائقين غابة فيصدمونك». ساعدني الشرطي بإنزال الشجرة وشدها بمؤخرة السيارة.
ولكن هذا كان مقلبا وتبعه مقلب آخر. في هذه العتمة، كنت أهتدي بمصابيح السيارات الأخرى. وجدت أحدها قويا يخترق الضباب فأخذت أسير وراءه وأهتدي به. سرت هكذا بضع مئات من الأمتار. رحت أدور خلفها يمينا ويسارا كالأعمى.
طرق شخص ما نافذة سيارتي وصاح بي: «أين أنت ذاهب؟ هذا كراج باصات». تبين أنني كنت أتبع حافلة وكانت في طريقها إلى مرأبها. وكانت مشكلة كبيرة كيف أعود للشارع وألتحق بحركة السير. بيد أن عمال المرأب ساعدوني في الاستدارة والعودة من حيث جئت.
الفرق بيننا وبين الغربيين، عزيمتهم على مغالبة أي مشكلة تعترضهم. اتضح أن هذا الضباب لا يعرقل حركة المرور وحسب بل ويودي بحياة الكثيرين من كبار السن والمرضى. المشكلة اختلاط البخار بالدخان. أصدروا القانون الذي يحرم
على البيوت والمعامل حرق أي شيء يؤدي للدخان. ابتدعوا أنواعا جديدة من المواد التي لا تطلق دخانا عند حرقها. وتركوني بهذه المشكلة الآن. كيف أتخلص من مقطوعات وزبالة حديقتي؟
827 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع