جيهان أبوزيد
كلما ازداد اللون الرمادي كنت أشعر بالخوف، ثم حدث أن سقطت الثلوج وتبعثر اللون الأبيض، رأيت الثلوج تتساقط على العاصمة الأردنية «عمان»، أخذتني الساعة الأولى، وأنا ألتقط صورا وأحلم بالطير مع الزهور البيضاء الصغيرة الهابطة من السماء، والتي كانت تسقط عمودية في البداية، وكأنما أتقنت الرقص واطمأنت فصارت تتراقص إلى اليسار تارة ثم إلى اليمين تارة أخرى، اختفت الألوان الرمادية والسوداء، وضاعت ملامح الطرق في بضع ساعات، وازدهرت الأرض بلون أبيض صاف أبت السيارات أن تجرحه فتوقفت عن السير، وانسحب البشر من المدينة وتركوها للثلوج تزينها كيفما تشاء.
لم أكن الوحيدة التي أحاطتها الأسوار، في بهو الفندق وقف الكثيرون من دون هدف يتطلعون إلى الخارج عبر الزجاج الكبير، كفوا عن التصوير وتفرغوا للانتظار، أطل علينا التلفزيون الأردني مؤكداً أن الحبس مستمر، وأن الأيام القادمة تحمل مزيدا من الثلوج والصقيع، ما إن تأكدت أن حبسي غير معلوم المدة حتى اعتراني شعور عميق بالضياع أو لعله شعور باليتم.. في مقر غربتي هذا لم أعرف أي وجه من الوجوه التي تطالعني كل يوم، صرت أتحرك في مساحة صغيرة بين طوابق لا تبعث لي إلا بالغرباء. في المساء رأيت الخيام السورية وقد أحيطت بواحة بيضاء تطلق جحيما ثلجيا انقطعت معه المئونة والتدفئة وضحكات الأطفال، أكان ما شعرت به فعلا هو يتم وضياع؟
اعتراني الخجل لحظة أن بدأت معالم مخيم «الزعتري» تتضح، المخيم يقع في شمال المملكة على مقربة من الحدود السورية ليأوي حوالي 65 ألف لاجئ سوري، فوجئوا بأنفسهم وقد أحيطوا برياح عاتية تجاوزت سرعتها 100 كلم في الساعة، فاقتلعت العديد من الخيام وتمزق البعض الآخر، واضطرت النساء والرجال إلى حفر خنادق صغيرة حول خيامهم لحمايتها من الأمطار والأوحال، البرافانات الخشبية الصغيرة التي أرسلتها المملكة السعودية لم تسع إلا أعدادا محدودة وظل الباقون يصارعون الثلوج والعزلة والفزع، اقتربت الأسر وانضمت إلى بعضها البعض، بعض الرجال تمكنوا من فرش الحصى بأرض الخيمة فارتفعوا عن منسوب المياه، فتدفق العشرات إلى داخل خيمتهم واكتفوا بالصحبة وقودا للتدفئة، خلعت طفلة صغيرة جوربها المبتل، عصرته الأم من المياه، ثم قذفت به للصغيرة، فإذا بها تبدأ اللعب وينتبه بقية الصغار فيتلقفون الكرة المبتلة، ويقذفها أحدهم بعيدا فتسقط على رأس أحد الآباء الذي انزوى في جانب الخيمة يبكي، حين سمع صوت طفله مسح وجهه وأعاد إليه الكرة، فأرجعها الصغير إليه، ليرسلها الرجل إلى زوجته وهي تضحك لمرأى أذرع الصغار والكبار الممتدة لالتقاط الجورب المبتل.
خارج الخيام كان رجال الدفاع المدني ما زالوا يحاولون حل مشكلات صنعتها الدول الكبار والمتآمرون من الصغار، كانوا يرفعون الثلوج ويحملون ألواحا خشبية وأجولة طعام أرسلتها بعض الأسر الأردنية، ويجتهدون لرأب خيام مزقتها الأمطار، الأردن الذي استقبل الحجم الأكبر من اللاجئين السوريين سبق له وقبل عشرات الأعوام أن فتح أبوابه للفلسطينيين، فقد تم تأسيس أربعة مخيمات في الضفة الشرقية لنهر الأردن في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، ثم تأسست ستة أخرى بعد حرب 1967، وهناك ثلاثة تجمعات أخرى في عمان والزرقاء ومادبا تعتبرها الحكومة الأردنية مخيمات في الوقت الذي تعتبرها الأونروا مخيمات «غير رسمية».
وينضم اللاجئون السوريون الجدد إلى نحو 44 مليون لاجئ في جميع أنحاء العالم فروا عبر الحدود هربا من العنف وفقا لتقديرات مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، التي أكدت أن عدد اللاجئين يتزايد في العالم، وأن %80 منهم موجودون في الدول النامية خلافا للتصور السائد.
وأوضحت المفوضية أن عدد اللاجئين يكاد يوازي مجموع سكان كولومبيا أو الجمهورية الكورية، ويعيش كثير من هؤلاء منذ عشر سنوات أو أكثر في أماكن إيواء مؤقت توفرها الدول أو توفرها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تنظر الحكومات والمنظمات إلى اللاجئين كأفراد تبحث عن الاندماج في المجتمعات الجديدة، وتقدر أعدادهم كل بضع سنين أو كلما طلت أزمة جديدة تدفع لخروج مزيد من المواطنين من بلدانهم، ثم تمنحهم مصطلح لاجئين.
كانوا مثلنا عما قريب، كان لهم منزل وشجر ووطن، لكن استبداد الإمبراطوريات الكبرى أفرغت منازلهم وحطمت جدرانهم ونزعت عنهم صفة المواطنين ليتحولوا إلى عالة يستجدون أبسط الحقوق الإنسانية. أجابني الرجل الذي كان يبكي في ركن الخيمة: «أنا بابكي لأن بيتي راح، وحارتي راحت وخايف كمان سوريا تروح»... ولم يصمد ثم عاد مرة أخرى للبكاء.
1056 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع