أ.د. ضياء نافع
قال احد الباحثين الكبار في تاريخ الادب الروسي مرة ,ان نتاجات ايليا ايرنبورغ من روايات وقصص واشعار وترجمات ستصبح يوما – ما جزءا من التاريخ ليس الا عدى مذكراته ,
اذ انها ستبقى حيوية ومتفاعلة مع مسيرة الادب الروسي , وسيبقى القارئ الروسي يطالعها دائما ويتمتع بها و يتعلم من احداثها ومن نظرتها الشاملة و الموضوعية والعميقة . وعلى الرغم من مرور وقت ليس بالطويل على هذه الكلمات , فانه يمكن القول فعلا ان قراءة نتاجات ايرنبورغ قد بدأت تتقلص لدى القراء , ولم تعد رواياته الشهيرة مثل ( سقوط باريس ) او ( العاصفة ) مثلا ( واللتان حازتا على جائزة ستالين في حينها , و ترجمتا الى لغات عديدة , و منها لغتنا العربية ) واسعة الانتشار بالنسبة للقارئ الروسي بشكل خاص و القارئ الاجنبي الذي يتابع الادب الروسي عموما , عدا مذكراته تلك.
مذكرات ايليا ايرنبورغ صدرت بعنوان – ( الناس , الاعوام , الحياة ) , وجاء هذا العنوان في بعض المقالات والترجمات والدراسات العربية هكذا – ( الناس والاعوام والحياة) وليس ذلك بخطأ طبعا . بدأ ايرنبورغ بالتخطيط لنشر مذكراته في نهاية خمسينيات القرن العشرين , وبالذات , عندما استقرت الى حدٌ - ما أفكار و توجهات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي المشهورة و المضادة للستالينية وعبادة الفرد في المجتمع السوفيتي , هذه المرحلة الجديدة التي اخذت من ايرنبورغ نفسه تسميته لها , عندما نشر عام 1954 قصته الطويلة بعنوان استقر في المصادر العربية هكذا – (ذوبان الجليد , او, ذوبان الثلوج ) , وهو عنوان يتكون من مفردة روسية واحدة تعني بدء الدفء , الذي يؤدي بالطبع في روسيا الى ذوبان ثلوج الشتاء , وقد دخلت هذه الكلمة الى اللغة الروسية المعاصرة بمعناها المجازي هذا لدرجة ان واضع القاموس الروسي – العربي المعاصر الكبير الصادر عام 2012 في موسكو الدكتور جابر قد أشار في قاموسه المذكور الى ذلك قائلا انها تعني – ( فترة انفراج نسبي في حياة البلد السياسية اثناء تزعم نيكيتا خروشوف للحزب والدولة في الاتحاد السوفيتي ) , ( وهو شرح يحمل وجهة نظر خاصة بالطبع ويحتاج الى اثباتات وتبريرات لا مجال للحديث عنها تفصيلا في اطار هذه المقالة ) . ومن الواضح , ان ايرنبورغ اراد الاستمرار بتوثيق كل ما رآه او سمع به او ساهم فيه اثناء مسيرته الحياتية الفكرية الطويلة على مدى نصف قرن تقريبا , ولهذا أخذ يكتب مذكراته تلك , ويجب القول و الاشارة والتأكيد حتما الى انه نجح نجاحا باهرا في عمله الابداعي هذا . لقد لفتت هذه المذكرات نظر القراء رأسا عندما بدأ ايرنبورغ بنشرها في مجلة ( نوفي مير ) ( العالم الجديد ) الشهرية , والتي كان الشاعر الروسي تفاردوفسكي رئيسا لتحريرها ( وهي المجلة التي قدمت قصة سولجينيتسن الشهيرة يوم واحد من حياة ايفان دينيسوفيتش ) , وكما حدث مع سولجينيتسن , اضطر ايرنبورغ ايضا الى الاتصال بالزعيم السوفيتي خروشوف لمساندته ضد الرقابة الحزبية التي بدأت تتدخل بقوة و تشطب هذا الاسم او ذاك وتمنع نشر بعض المقاطع من مذكراته , خصوصا عندما كان يتناول الاسماء الممنوعة او شبه الممنوعة في ذلك العصر , وعلى الرغم من ان ( خبراء قسم الثقافة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ) قد بدأوا يتساهلون نوعا – ما مع ايرنبورغ بعد توصية خروشوف , الا ان النص الكامل لتلك المذكرات ظهر – مع ذلك وبالرغم من ذلك - بعد سنين طويلة من رحيل ايرنبورغ ( توفي عام 1967) , وفي عام 2013 دخلت هذه المذكرات ضمن قائمة ال ( 100 كتاب ) التي نشرتها وزارة التعليم والعلوم الروسية , و هي القائمة التي اوصت الوزارة ان يطلع عليها الجميع في القراءات الخارجية لاكتمال ثقافتهم وبلورتها .
تقع هذه المذكرات في سبعة كتب باكملها , وقد بدأ ايرنبورغ بكتابتها عام 1958 وقال عندها انه بدأ بكتابة كتاب سيكرس له كل سنين حياته المتبقية و سينهيه في نهاية عمره , وهذا ما حدث فعلا .
في عام 1960 ارسل ايرنبورغ الكتاب الاول من تلك المذكرات الى مجلة ( نوفي مير ) كما ذكرنا أعلاه , ولم يستطع رئيس التحرير ان ينشر الفصل الخاص بنيقولاي بوخارين , الشخصية السياسية الكبيرة في تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي والذي أعدمه ستالين عام 1937 اثر محاكمة صورية كما هو معروف, وذلك لان اسم بوخارين لم يرد آنذاك في قائمة الذين اعادوا اليهم الاعتبار , وان نشر اي شئ عنه يتطلب موافقة خروشوف شخصيا , وقد اضطر ايرنبورغ ان يكتب رسالة الى خروشوف وقال فيها ان بوخارين رفيقه في المدرسة , ولكن خروشوف – مع ذلك - لم يوافق على النشر وطلب من ايرنبورغ التأني بشأن ذلك , وقد تم نشر هذا الفصل وبشكل مختصر في عام 1988 فقط , اي بعد 28 سنة من تاريخ كتابته لذلك الفصل , وبعد وفاة ايرنبورغ وخروشوف بسنين طويلة , وتم نشر الفصل هذا كاملا في عام 1990 ليس الا .
لقد أراد ايرنبورغ ان يقدم للجيل الجديد تلك الاسماء الكبيرة في الادب والفن والسياسة ...الخ , والتي لم يكن يعرفها ذلك الجيل نتيجة منعها من قبل الرقابة الصارمة ايام ستالين , مؤكدا على ان الجيل الجديد يجب ان يعرف تاريخ بلاده واعلامها. لقد طرح ايرنبورغ فعلا تلك الاسماء بكل شجاعة مثل تسفيتايفا ومندلشتام وميرخولد وأخماتوفا وبابل ...وتناول اسماء اوربية في الفن التشيكيلي لم تكن معروفة للقارئ السوفيتي الاعتيادي بشكل واضح المعالم مثل موديلياني وبيكاسو وسلفادور دالي وشاغال ... والذين كان يعرفهم شخصيا اثناء اقامته في باريس , وتوقف طويلا عند همنغواي وحدد شعاره – من وجهة نظره - في الابداع كما يأتي– الحب , الموت , العمل , النضال ...وتحدث عن ذكرياته اثناء الحرب الاهلية في روسيا في عشرينيات القرن العشرين وعن الحياة الثقافية في موسكو في تلك الفترة وعن المؤتمر الاول لاتحاد الادباء السوفيت ونقاشه مع غوركي وتناول طبعا فترة اقامته الطويلة في المانيا و اسبانيا وفرنسا وعلاقاته الثقافية مع كبار الادباء الاوربيين ومساهماته في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم... وباختصار فقد عرض للقارئ السوفيتي عوالم جديدة بكل معنى الكلمة والتي لم يكن يعرف عنها اي شئ , لهذا أخذ هذا القارئ ينتظر بلهفة وحماس منقطع النظير تلك المذكرات ويتلاقف تلك المجلات التي تنشرها , وقد أثار هذا الوضع بعض الصحف والمجلات السوفيتية الاخرى وبالتالي وقفوا ضد تلك المذكرات , ومنهم رئيس تحرير مجلة ( أكتيابر) ( اكتوبر ) الادبية المعروفة وغيره , معتبرين ان القضايا التي يثيرها ايرنبورغ هي ( ظواهر ثانوية وذاتية بحتة ) , وازدادت هذه الحملة المضادة له بعد تنحية خروشوف عن السلطة عام 1964 , وقد ساهمت في تلك الحملات حتى جريدة ( ازفيستيا ) السوفيتية الشهيرة لدرجة ان ايرنبورغ لم يستطع نشر الكتاب السابع للمذكرات كاملا, وهو الكتاب الاخير من المذكرات , واوقفت المجلات الرسمية طبع الفصول الاخيرة منه , وقد تلاقفتها طبعا المجلات والاصدارات غير الرسمية والتي بدأت في تلك الفترة بالنشر السري والتداول بين القراء ...
ان مذكرات ايليا ايرنبورغ تتعايش مع القراء الروس المعاصرين لحد الان , وقد كتب احد النقاد قبل فترة قصيرة يقول , انه حضر نقاشا حول بيكاسو وشاهد كيف ان الشباب كانوا يستشهدون بآراء ايرنبورغ في مذكراته حول بيكاسو , و يستنتج الناقد قائلا –( ذلك يعني ان تلك المذكرات لا زالت تحيا معنا في القرن الحادي والعشرين ).
908 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع