خالد حسن الخطيب
في سنة 1998 كنت في زيارة الى العاصمة الاردنية عمان وقد التقيت بصديق قديم من احد اصدقاء الدراسة الاوفياء , وسرعان ما تذكرنا ايامنا الجميلة , وقد استأجر صديقي دارا للسكن و دعاني لقضاء تلك الامسية معه ,
وبعد ان تناولنا الشاي المهييل على الطريقه العراقية قال لي تعال وشاهد بنفسك كيف استطيع الكتابة والتحدّث مع اكثر من شخص في العالم على هذا الحاسوب الالي... فكانت دهشتي كبيرة عندما بدأ الكتابة مع شخص الماني ثم تحول الى شركة بريطانيه ثم مع اقاربه في امريكا وغير ذلك , ولم تكن هذه الاجهزة قد انتشرت في بغداد بسبب الحصار الظالم والمجحف الذي قادته وفرضته امريكا وحلفائها الاشرار على بلدي العراق . فضلّت هذه اللحظات والدقائق التي قضيتها معه راسخة في ذهني , وبعد سنوات وتحديدا شتاء سنة ( 2002 ) حدثني صديقي احمد الذي كان طالبا في قسم الفيزياء بكلية ابن الهيثم الواقعة في منطقة الاعظمية ان الكلية افتتحت قاعات وبداخلها الكثير من الحواسيب المربوطة على شبكة الانترنت وان سعر التصفح للساعة الواحدة هو ب 500 دينار عراقي ( 0.25 دولار ) فقلت له يا بلاش ؟ سعر ساعة التصفح ب 500 دينار ؟؟؟ فأجابني ... تعال وتصفح الانترنت انت بنفسك وانأ بأنظارك غدا .. وفي اليوم التالي كان احمد بانتظاري وقد اصطحبني الى قاعات كبيرة داخل الكلية المذكورة وقد جهزت بعشرات الحواسيب المتفاعلة مع الشبكة العنكبوتيه , فقمت بتصفح الانترنيت لأول مرة في حياتي بالعراق . اما في يومنا هذا فحدث ولا حرج فلا يكاد منزل او مكتب او محل تجاري في كافة مدن العراق إلا وإشارة ال ( الواي فاي WI FI ( تنبعث منها , وان اجهزت الهاتف المحمول الذكية بيد الصغار والكبار على حد سواء والجميع ما شاء الله قد تفننوا بالتصفح وقراءة الاخبار والمواقع الاجتماعية بشكل يلفت النظر . اما الاطفال دون الرابعة فقد استأثروا بالهواتف المحمولة بسبب وجود الكثير من افلام الكارتون وبكافة اللغات وغير ذلك . ومن الامور الملفتة للنظر ان المسنين الذين تجاوزت اعمارهم السبعون لا يميلون الى قراءة الصحف والكتب الالكترونية من على شاشات الحواسيب حتى يقولون لك نحن لا نحبذ قراءة الكتاب او الجريدة إلا على شكلها الحقيقي . وفي احد ايام صيف سنة 2014 كنا جالسين في مجلس الاستاذ الجليل الحاج صلاح عبدالحميد الحطاب وقد تعالت اصوات الجالسين بفوائد وعظمة الانترنت, فقد قرب البعيد وجمع شمل الاحباب وأصبحت المعلومة تصل بكل يسر وسهولة , واخذ كل واحد منا يدلو بدلوه عن فوائد الانترنت وعن المعلومات الكثير والعظيمة التي استفاد منها والتي جاء بها هذا الاكتشاف الرائع ... إلا الحاج صلاح فلم ينطق بحرف واحد بل ظل صامتا ... وعندما شاهد الحاج صلاح الوقت المناسب قال مقولته الجميلة ... ( انا لا اعترف بالانترنت الذي تتحدثون عنه .. انا الانترنت الذي اعترف به هو الاستاذ الباحث واللغوي والعلامة عبد الحميد الرشودي .. فإذا اردت البحث في موضوع معين فاني افكر على الفور بسؤال صديقي العزيز عبد الحميد الرشودي لأنه موسوعة العلم والمعرفة وينبوع الادب والثقافة والفن ) .. فسكت الجميع الذين كانوا قبل قليل يتحدثون عن فوائد وعجائب الانترنت لان كلام الحاج صلاح قد الجمهم جميعا والزمهم الحجة .. فلا انترنت اعلى من معلومات العلامة عبد الحميد الرشودي .. ولا انترنت اغزر واغنى من مؤلفات الناقد الادبي الشهير الاستاذ الرشودي بما امتلكت هذه الكتب من معلومات لن ولم تجدها في زوايا وحنايا هذا الانترنت الذي يتحدثون عنه. فكان الاستاذ الرشودي الموسوعة الفكرية لتاريخ العراق وخصوصا بغداد لأنه من ولادة الكرخ( 1929 ) محلة الدهدوانه في بيت ملاصق لجامع صندل , وكان رحمه الله خبيرا في الانساب والعشائر العربية سوأ في العراق او الجزيرة العربية حيث كان يرحل كابن بطوطة في بقاع الارض حول هذا الموضوع , ويعرف جميع علماء وفقهاء وأدباء بغداد وأصحاب المهن الحرفية ويعرف ابناء بغداد والمناطق المجاورة فردأ فردا.. وقلما تجد انسان يضاهي بغزارة هذه المعلومات التي يمتلكها والتي حباه الله به اياه . وكان رحمة الله باب لكل سائل ومفتاحا لكل موضوع مغلق وشعله نيرة لكل من يبحث العلم والمعرفة , وكان خبيرا في اداء مقامات القران الكريم والمقامات العراقية حيث كان يؤمه طلاب الدراسات النغمية وقراء القران الكريم بشكل ملفت للنظر . اما منزله فكان مكتبة كبيرة وثرية تحوي نوادر ونفائس الكتب من اهمها الانسكلوبيديا البريطانية بصورة كاملة وله ارشيف كامل للصحف العراقية التي صدرت في اعدادها الاولى حيث يزوره الكثير من الصحفيين والمصورين لتصوير هذه الجرائد والمجلات .
ان الاستاذ الرشودي يضاهي ويتفوق من ناحية المعلومات وغزارتها الاستاذ الجليل حسن الكرمي ( الاديب الاعلامي الفلسطيني المتخصص باللغة العربية ) ( الذي قلدته ملكة بريطانيا بوسام لخدماته في العمل الاذاعي ) صاحب البرنامج المشهور ( قول على قول) وكذلك البرنامج الذائع الصيت ( بين السائل والمجيب ) الذي يذاع من على إذاعة ال BBC البريطانية . هذا ومن الجدير بالذكر فقد كان العلامة الرشودي معجبا اعجابا شديدا بمؤلفات وشعر الشاعر العراقي الكبير المرحوم معروف الرصافي. اما اعجابنا نحن به فكان من خلال امتلاكه لسحر الحديث والاستحواذ الكامل على المشاعر والأحاسيس والعزف ببراعة على اوتار القلوب من خلال كلماته العذبة وأحاديثه الشيقة وإطلالته الحسنة فكانت الدقائق والساعات تمضي كالبرق من شدة سعادتنا وفرحنا ونحن جالسين نستمع بما يغرد به فمه البليغ وعقله النير. ولست بصدد ذكر مؤلفاته الكثيرة ولا بذكر مناقبه الحميدة ولكن اود القول ان العراق لا ينكسر ما دام فيه هذا الشعب الجبار او كما قال سيدنا عمر بن الخطاب (رض) : العراق جمجمة العرب وكنز الرجال ورمح الله في الارض فاطمئنوا فان رمح الله لا ينكسر, واختم قولي بقوله تعالى : ) ِمنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا )
وأخيرا... فقد تشرفت قناة الشرقية الفضائية وعلى رأسها الاستاذ المبدع سعد البزاز بتكريم الاستاذ اللغوي عبد الحميد الرشودي مبدع العراق الاول ( قلادة الابداع ) لأنه بصمة مهمة في الادب التراثي العراقي .
وبتاريخ 24/11/2015 رحل احد حراس الادب العراقي واحد دعائم الفكر العربي و شمعة من شموع النقد والبلاغة والتأليف بعدما طرز سجله الابداعي بصمت بعيدا عن الضجة الاعلامية وبهرجتها المفقودة تاركا الجمهور العربي يتلذذون ويتنورون بكتبه ومؤلفاته النفيسة والثمينة.
909 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع