مشعل السديري
صحيح أن في أعماقي شيئا من (الرومانسية)، ولكنني أيضا لست بذلك الإنسان الرومانسي إلى درجة مفرطة، ففي بعض الأحيان عندما أستثار تطفح على السطح عندي (جينات) التوحش، وبدلا من أظهرها على الملأ أذهب راكضا إلى أقرب حمام وأغلق الباب على نفسي بإحكام،
ثم أبدأ بالشتائم والزئير والضرب بقبضات يدي على الجدران إلى أن أتعب، وبعدها أهدأ وأخرج والابتسامة (المونولزية) على محياي وكأن شيئا لم يكن، إلى درجة أن أكثر الناس يقولون لي دائما: يا حليلك، ولا يدرون أنني أحيانا أتمنى أن أقذف بهم إلى ما وراء الشمس.
هذا هو ديدني وأسلوبي في الحياة، عاشق حتى الثمالة، وحزين حتى البكاء، ومؤمن حتى التلاشي، أتمنى وأتمنى وأيضا أتمنى لو كان بيدي سيف (الإسكندر المقدوني) لأوسع كل الظالمين قتلا، ولكن مع الأسف يدي من هذه الناحية تكاد تكون مشلولة، فهي (ويادوبك) تحمل نفسها، فكيف لها أن تحمل سيفا، وفوق ذلك أن تقتل؟!
إنني لم أُخلق من أجل هكذا أبدا.
وبعد جهد جهيد في التمعّن والتبصّر وتعداد ذنوبي ومحاكمتي العلنية لنفسي الأمارة بالسوء، قررت وأنا بما تبقى من قواي العقلية أن أصدر حكما ناجزا قاطعا لا رجعة فيه: أن أكون مسالما بقدر ما أستطيع، لا أريد أن أقتل إنسانا ولا حيوانا ولا حتى حشرة أو جرثومة، تركت كل هذا للقادة ولهواة الصيد وللأطباء يفعلون كما يشاءون، ووقفت أنا بعيدا عنهم أتفرج وأعزف على قيثارتي مثلما كان يعزف ويتفرج (نيرون) على روما وهي تحت أنظاره تحترق.
لم أُفتن في حياتي إلا بشيئين؛ الأول أتركه الآن على جانب فليس هذا هو الوقت والمجال للحديث عنه، أما الثاني فهي النباتات والزهور تحديدا بجميع أنواعها وأشكالها.
وهذا هو ما دعاني في أول حياتي العملية، وفي عز (الطفرة) المالية الأولى، عندما كان أقراني ومن هم في جيلي يتهافتون على المقاولات والصفقات والأرباح وجني الثروات، كنت وقتها كالطائر الذي يغرد في غير سربه، واتجهت لبيع وإهداء الورود والزهور لبنات المدارس، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل من دون شك على أن هناك خللا ما في تلافيف عقلي، وما زال ذلك الخلل مستحكما فيه إلى الآن - والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
الذي دعاني إلى الولوغ في هذا الموضوع هو أنني تذكرت عندما عدت في الصيف الماضي من مدينة (ميامي) في أميركا، وقضيت ساعات وساعات في حديقة هي جنة الله على الأرض، وقد أنشأها الملياردير الياباني (كيوشي ايشمورا)، عندما زار تلك المدينة وخلبت لبه، فاشترى أرضا واسعة وجلب عشرات المزارعين اليابانيين وأنشأ حديقة على الطريقة اليابانية تفاخر بها ميامي اليوم، كل هذا لأن المدينة شرحت له صدره على حد قوله.
هل تصدقون أنني كلما دخلت إلى تلك الحديقة أدعو لذلك الملياردير أن يسكنه الله فسيح جناته بقدر ما هو شرح صدري.
وما دمنا في هذا الصدد فاسمحوا لي أيضا أن أترحم عن الأميرة (فاطمة) ابنة الخديوي إسماعيل التي تبرعت بمجوهراتها وأراضيها كلها، من أجل أن تنشئ حديقة الحيوانات، وجامعة القاهرة، وحديقة الأورمان، ولو أننا سألنا اليوم (الملايين) من المتظاهرين حول جامعة القاهرة، ومثلهم الذين يرتادون حديقة الحيوان، أو حديقة الأورمان، عن الأميرة فاطمة بنت إسماعيل؟! فإنني على يقين أنه لن يتذكرها غير العشرات، فهل التاريخ ظالم وجاحد إلى هذا الحد؟!
1047 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع