د. ضرغام الدباغ
من خلال متابعتي للحدث التركي من المصادر العربية، والألمانية، والتركية، والإنكليزية، ومقاطعة المعلومات، واللجوء إلى المعطيات المادية أولاً ومن ثم للأدلة العقلية، نتوصل إلى المعطيات التالية :
1.مجموعة الضباط في التنظيم السري المشاركين فعلياً (له صلاته الخارجية) لا يتجاوزاعضاؤه ال 40 ـ 45 ضابط. وربما يستندون إلى دعم تنظيمات أخرى. ولا يزيد عدد المكلفين والمبلغين، والمنفذين من الضباط والجنود على 200 شخص، وسواهم ممن اعتقلوا هم من العناصر التي لم تؤد واجبها، أو تعاونت بشكل وبآخر، أو لم تتصدى للمؤامرة كما يقتضي الواجب.
2.يحتمل أن أنظم إليهم عدد من الضباط بعد إعلان الانقلاب بحكم معاداتهم للنظام لأسباب مختلفة، ولكن الغالبية العظمى فضلوا أن يبقوا عسكريين محترفين لا شأن لهم بالسياسة.
3.سيطر تنظيم الضباط على بعض الوحدات "سيطرة جزئية "، على بعض القواعد (أثنين أو ثلاثة) أهمها ( قاعدة أكنجي، بالقرب من العاصمة أنقرة وقاعدة دياربكر الجويتان). ووحدات مدرعة، ولم يسيطروا على أي وحدة كبيرة سيطرة تامة.
4.السيطرة الجزئية تؤكدها أحداث كتحرير رئيس أركان الجيش الفريق أول خلوصي أكار على أيدي ضباط من رئاسة الأركان، بعد ساعات قليلة (10 ساعات) من اختطافه من رئاسة أركان الجيش، ونقله إلى القاعدة الجوية المذكورة.
5.رغم وجود أعداد من التنظيم السري في رئاسة الأركان، إلا أنهم فشلوا في السيطرة كلياً على رئاسة الأركان، والضباط قادة المفاصل. كما فشلوا في ضمان تأييدهم، حتى تحت التهديد بالسلاح.
6.قاعدة أنجرليك الجوية لم يسيطر عليها المتمردين تماماً رغم وجود عدد محدود منهم فيها، والقاعدة كانت وخلال الأحداث أستعاد الجيش التركي سيطرته عليها، بعد وقت قصير من أنشطة تآمرية فيها، والوجود الأجنبي فيها هو بحكم " وحدات ضيوف " وهو مصطلح مألوف في إدارة المعسكرات.
7.هناك قادة وحدات لم يكونوا عوناً للمتمردين، ولكنهم أبدوا تلكؤاً في الأوامر الصادرة إليهم، لذلك تم عزلهم، وربما توقيفهم.
8.لم تستغرق سيطرة الانقلابيين على قناة التلفزيون الحكومية الرسمية (TRT) أكثر من ثلاث ساعات، وهو من أسباب إخفاقهم.
9.الوحدات التي تم توجيهها من قبل المتمردين عجزت (لقلتها) عن تغطية "الأهداف الهامة"، وواجهوا المقاومة حيثما قصدوا وتوجهوا.
10.تقدمت ساعة الصفر ستة ساعات، بدأت في التاسعة (كان يفترض أن تكون في الساعة 03,00 فجر يوم 16/ تموز) والخطوة الأولى تمثلت بفشل محاولة اغتيال الرئيس اردوغان، الذي كان متواجداً بأجازة في بلدة مرمريس، وعندما أنزلوا قوات بالمروحيات قرب الفندق لاعتقاله أو اغتياله، حيث كان يقيم، جاؤا متأخرين لدقائق ثمينة، وأشتبكوا مع الحرس الرئاسي، فيما توجه الرئيس إلى مطار استطنبول متجنباً الأوضاع المريبة في سماء المنطقة..
11.فشلوا في تطويع رئيس أركان الجيش أو استمالته أو إرهابه.
12.أخطأ المتمردون في حسابات الموقف السياسي خطأ فادحاً وحاسماً لا يغتفر، في تقدير موقف الأحزاب المعارضة للرئيس اردوغان التي وقف إلى جانبه بصورة تامة وقاطعة.
13.أخطأ المتمردون خطأ فادحاً وحاسماً لا يغتفر بتجاهل قوة الإرادة الشعبية، الشعب التي أدرك في لحظة واحدة أنه سيحصل على "ديمقراطية وحقوق إنسان" كتلك التي تحدث في العراق وسوريا، فخرج يدافع عن وجوده ودولته.
14.أخطأ المتمردون في تقدير قوة صمود الحكومة ورئيس الوزراء ودوره، وسائر أعضاء الحكومة.
15.أخطأ المتمردون في تقدير قواهم والقوى الأخرى، إذ وجد المتمردون أن المواقع التي هبت لمقاومتهم كثيرة، وما بأيدهم من القوات لا تكفي لتغطيتها، أي بمعنى عجز فادح بالقوات، مقابل حشد كبير من الأهداف، وهو خطأ جسيم آخر.
16.أخطأ المتمردون بدرجة اعتمادهم على القوى الخارجية، وكأي حركة تعتمد (بأي درجة كانت) على العون الخارجي، أو ردود فعله " بشكل مباشر أو غير مباشر " ستقع في مأزق تقدير : مبالغة أو بخس قيمة، ما يبديه ذلك الطرف الخارجي، وفي حالات كهذه، تشير التجربة التاريخية (بولونيا / 1945، المجر/ 1956)، للعديد من الحركات والأنقلابات والتمردات، أن الطرف الخارجي يتريث في إبداء انحيازه وتأييده المادي (غير الإعلامي)، وتدخله المباشر، وقد يتريث أكثر إذا لم يتمكن المتمردون، المتآمرون، الإنقلابيون، من حسم الصفحة الأولى، وهذه القوى الأجنبية لديها خبراء في تقدير مستوى أداء الأنقلاب، وعلى تماس مباشر مع الأحداث.
17.بالنظر لمشبوهية الانقلاب وأهدافه، إلى جانب لا مشروعيته، تراجعت نسبة كبيرة من الجنود، وصغار الضباط المتمردين عن التنفيذ، عندما شعروا أنهم يطيعون أوامر عسكرية مخالفة للقانون وروح الجيش، فوضعوا أسلحتهم أرضاً وانظموا للشعب، والنسبة كانت أكبر لدى العسكريين من الجنود.
18.الجهات الأجنبية الداعمة للأنقلابيين، قدرت منذ الساعات الأولى، أن الانقلاب سائر إلى الفشل، لأنه فشل في رئاسة الأركان، كما فشل في اغتيال الرئيس، ثم فشل في تقدير موقف الأحزاب والقوى السياسية، وفشل مرة رابعة وحاسمة في تقدير قوة الشعب الملتف حول قيادة أردوغان. فتراجعت عن التدخل المباشر، ثم تراجعت عن تأييدها اللفظي المرن، وبهتت حرارته، ثم تراجع آخر إلى موقف حيادي، ثم إلى انتقاد " العمل العسكري " بوصفه معاد للديمقراطية. أي انسحاب تدريجي ملحوظ ومؤشر بدقة تامة.
19.هناك قوى إقليمية كادت أن تقع في خطأ تاريخي، وربما في مأزق بتدخلها، ولكنها تراجعت في اللحظات الأخيرة، ربما بأمر أو بنصائح من قوى أكبر منها.
20.ما تبقى من قوى التمرد (أفراد على الأرجح) التي لم تقع بأيدي القانون، هي في موقف يائس، لا أمل فيه البته، وهي تستلم تدريجياً بعد 48 ساعة على المحاولة الفاشلة.
الفقرات أعلاه ليست تحليلاً، بل هي معطيات مادية حدثت، (وهناك الأكثر ربما ستعلن خلال المرحلة المقبلة)، وضعناها في إطارها وسياقاتها التنفيذية ليسهل التوصل إلى تقديرات قائمة على التحليل. وتقديراتنا هي :
1.أن محاولة الانقلاب كانت حدثاً متوقعاً منذ فترة طويلة. فقد بلغت مستويات عدة في الأداء التركي على المستوى السياسي والاقتصادي خاصة، درجة غير محتملة للقوى الدولية. وحتى أن الرئيس أردوغان حذر قبل حوالي العشرة أيام ممن يستهدفون ضرب الوحدة التركية.
2.كانت تركيا وطوال عقود من البلدان التي تدار بالتلفون، وفي الخمسينات على الأقل، كان الضباط المرشحون لرتبة جنرال لابد من استحصال موافقة السفارة (س) على ترفيعهم. وفي الستينات تمركزت فيها عدداً من القنابل النووية دون علم الحكومة التركية، بسببها ذلك التمركز، كانت الأراضي التركية ضمن الخارطة النووية السوفياتية.
3.كانت المخابرات الأجنبية تعتبر تركيا ملعباً لفعالياتها، ولا يمكنها التصور أنها فقدت هذه الساحة، رغم أن تركيا لما تزل عضوا في حلف الناتو، إلا أن مفردات كثيرة في التعامل قد تغيرت.
4.بلغ الاقتصاد التركي درجة رفيعة (14 عالمياً ـ من دول العشرين، وقريباً يبلغ مستوى دول الثمانية) بعد أن كان في الحضيض، وهذا يفتح الأبواب أمام امكانات دولة مهمة، بحجم سكانها ومساحتها.
5.صمود تركيا أمام المناورات ومحاولات نصب الفخاخ، وقدراتها الفائقة على التعامل السياسي والدبلوماسي.
6.نجاح القيادة التركية في تقديم منجزات على كافة الأصعدة للشعب، منجزات بعضها يبدو مذهلاً في درجة تقدمها لمن يعرف الأوضاع التركية، وهو ما حقق التفافاً شعبياً لا نظير له حول القيادة التركية.
7.ومتتبعين الشؤون التركية، والعارفين ببواطن الأمور يعرفون الثغرات التي يمكن من خلالها أن تتسلل الإرادات الأجنبية، ورغم أن القيادة التركية (وتركيا دولة مؤسسات) قد شخصتها بدقة حتماً، إلا أن الفعل الخارجي له تأثيره أيضاً، فالمتوقع كان مؤامرة أكبر من هذه التي حدثت ليلة 15 / 16 تموز، قياساً لحجم القوى الكبيرة المشاركة.
8.ويبدو أن حجم الاعتماد على التدخل الخارجي كان كبيراً، بل وأكبر مما ينبغي، وعندما لم تظهر أي من مؤشرات نجاح الانقلاب (بدأت أولى فعاليات الانقلاب في الساعة 21,00 من مساء يوم 15/ تموز، وكان مقدراً أن يذاع البيان الحاسم في الساعة السادسة فجر يوم 15 / تموز)، فلما فشلت قوات المتآمرين في تحقيق مكتسبات، ونجاحات، أحجمت القوى الخارجية عن التدخل، فأضافت سبباً لفشل التمرد.
9.بعض القوى المهمة في المجتمع التركي، لها قدرات كبيرة، نجمت عن نشاط سري طويل المدى، يمتد لسنوات طويلة، امتلكت خلالها قدرات مالية هائلة، وثقافية (مدارس بالآلاف وجامعات داخل تركيا وخارجها) وبنوك في الداخل والخارج، ومؤسسات اقتصادية لا حصر لها داخل تركيا وخارجها، حتى خيل للكثيرين أن هذه المؤسسة أصبحت بدرجة من الانتشار بحيث أصبحت خارج نطاق التصدي لها، بل أن لهذه المؤسسة تنظيمات في الجيش والشرطة والأمن، والمحاكم، والصحافة، وصار التصدي لها ضرباً من المجازفة. حتى قيل أنها دولة أخرى موازية للدولة التركية، هذه القوى ناصبت العداء للقيادة التركية، بعد أتضح لها أبعادها وجذورها الضاربة في كل مكان، ولاسيما الخارجي المشبوه منها.
10.بتقديرنا أن القوى السياسية التركية الرئيسية منها خاصة، أصبحت على إدراك تام بأبعاد المؤامرة التي تستهدف تركيا كياناً، ودولة وشعباً ووحدة، والمرحلة المقبلة على صعيد السياسة الداخلية ستشهد تلاحماً قوياً بين قوى الشعب التركي، وأن التدخلات الخارجية ستتخذ صيغاً أخرى، ولكن بتقديرنا أن الحكومة التركية قادرة على رص صفوفها وعدم تمكين القوى التي تستهدفها منها.
العبرة الأساسية هي، أن الاعتماد على الأجنبي والسير في خططه ينطوي على سقوط مدو، من ينظر في وجوه المتآمرين يفهم هذا الكلام، ولكن الحياة تعلمنا أن هناك دائماً متساقطين، ضعفاء، مندسين، خونة، جواسيس، ومن يبيع الوطن لقاء وعود سخيفة. وعلى القوى والشخصيات الوطنية عدم تغليب الخلاف في الأمور السياسية على الثوابت الوطنية.
المؤامرة الفاشلة قد أفرزت إلى حد الآن (حتى قبل نهاية التحقيقات ـ بعض قادتها يدلون بمعلومات مذهلة) معطيات كانت ربما معروفة بدرجة معينة، ولكنها الآن غدت حقائق ثابتة، ومن أبسط تلك، أن كل ما يدور في العراق، حتى أدق التفاصيل إنما يدور بمخطط مدروس(بما في ذلك ما تفعله داعش)، وليس هناك دموع تماسيح، والحديث عن أخطاء واعتذار، فهذه كلها من مستلزمات، المؤامرة التي تتواصل ولا توقفها إلا إرادة الشعب في صحوه عامة ضرورية، وتحويل إرادته إلى قوة مادية لا تقهر... بلداننا كلها تتعرض لمؤامرة لا تستثني أحداً ... لا ينبغي لأحد أن يغفل هذه الحقيقة.
العمل ضد تركيا دخل مرحلته المكشوفة، كجزء من المخطط الشامل، ليس أحد ببعيد عن أهداف المؤامرة، وسنشهد الكثير من الأنشطة في هذا المجال في القريب.
1191 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع