بقلم/ حامد خيري الحيدر
طريقٌ مُترب طويل، خطواتٌ لأقدامٍ مُتعثرة تحمل بقايا أنسان تتمايل قامته من شدة الضعف ووهن الجسد، لا تسترهُ غير قطعة ثوب عتيق بال وصَندل مُمزق مُهتريء لا يكاد يحمي تلك الأقدام المُتهالكة، فأنغرز الحصى الناعم فيها دون أن ينتابه أدنى أحساس بالألم، بعد أن فقد ذلك الشعور من كثرة ما لاقاه...
ماكاد يسير بضع خطوات حتي يتكأ قليلاً على أحدى الجدران الطينية، ليستعيد بعضاً من قوتهِ تعينه على مواصلة مشيه نحو ذلك الأفق البعيد الذي لا تبدو من ملامحه غير العُتمة..... على هذا المنوال المتباطيء الرتيب واصل (أونتاش) سيره قاصداً قصر الأمير.
قطع بمسيرته المتباطئة تلك سوق المدينة، حيث كانت الحياة في (لكًش) سقيمة كئيبة، بالرغم من ما كان يوحي ظاهرها المزوق المُزيف، الذي تحاول سلطة الأمير تجميله لإخفاء حقيقة واقعها المُزري الذي تعيشه.. أنتصب في وسطه تمثال كبير للأمير بوجهه القاسي المُتجهم، ماداً يده للأمام كأنه يأمر الجميع بالسكوت، والناس يمرون بجانبه رامين اياه بنظرات الغِل الحاقدة. لم يقف أحداً عند قاعدته سوى بعض البغايا اللواتي أتخذن منها مرتعاً ومثابة لتجمعهن الرخيص... أما الحوانيت فكانت مُشرعة الأبواب، عارضة بضاعتها المتنوعة أمام المارة المنتشرين بينها هنا وهناك على اختلاف هيئاتهم، أما البسطاء منهم فكانوا يكتفون بالنظر اليها دون أدنى قدرة منهم على الشراء، بعد أن نخرتهم الفاقة حتى النخاع... بالمُقابل ترى التجار قد ازدادت سمنتهم وانتفخت كروشهم كقطط المطابخ الكسولة، يجلسون أمام حوانيتهم بملابسهم الفاخرة موزعين ابتسامتهم الصفراء الكاذبة، مُحاولين استمالة الزبائن لمبيعاتهم، هاتفين بعلو أصواتهم (أنها خيرات أميرنا العظيم)، (أنها نِعَم أميرنا المُفدّى)... أما أقرانهم الذين لايريدون أن تبُح حناجرهم بمثل هذا الزعيق، فليس لديهم من عمل يقومون به سوى وزن شيقلات الذهب والفضة ثم وضعها في أكياس جلدية صغيرة، غير عابئين بالحمالين المُتعبين العاملين في حوانيتهم، وقد أحدودبت ظهورهم من كثرة تحميل البضائع وأكياس الحبوب الثقيلة، ناظرين الى التاجر نظرات حادة تبقى معانيها بين ثنايا قلوبهم المُتقيحة...... كانت صور هؤلاء المظلومين المتعبة شبيهة بحاله هذا، حيث غدى مع معظم الفلاحين الكادحين في المدينة بعد أن ُطردوا من أراضيهم ودورهم، ثم سلب كل ما يملكون لعجزهم من سداد تلك الضرائب اللعينة التي فرضها جباة الأمير عليهم.... (الأمير يمهلك ثلاثة أيام يا (أونتاش) لتأتي بنفسك اليه وتختم صك التنازل عن أرضك أمامه، وألا سيكون مصيرك مثل مصير زوجتك الساقطة).. هكذا قالوها بمليء أفواههم العريضة التي تشبه أفواه الضباع، أعقبوها بضحكات العُهر التي لا تليق ألا بالقتلة، بينما هو مُكبل اليدين مُلقاً أمام أرضه السليبة التي لم يبقوا له فيها سوى جثة زوجته (ننشيدا) مُلطخة بدمائها.. أي أذلال ذلك الذي يريد الأمير أن يلحقه بالكادحين المستضعفين؟ ما هذا الغضب ذلك الذي يريده أن يتلبد في صدورهم؟
مع نهاية السوق ساقه الطريق لأحد الأزقة الفقيرة حيث بيوت الشغيلة والحرفيين البسطاء الذين عانوا ما عانى فلاحي (لكًش)، ليرى وجهاً آخر من القهر الذي عانته هذه الأرض المتهالكة، لايكاد يجمعه مع الأول سوى سور المدينة الذي انهارت أجزاء كبيرة منه وتداعت أخرى، ليعلن عجزه عن حماية وجهيها النقيضين... بيوت بائسة وأخرى في طريقها للسقوط، رجال ونساء يجلسون عند أبوابها المتهاوية، لا ملامح لهم بعد أن تحولوا الى أشباح من شدة الفقر وقسوة الجوع ليبدوا كأنهم أخرجوا تواً من قبورهم، ينظرون الى المارة بذهول غريب... أطفال عراة ذوي بشرة صفراء يبحثون بين أكوام النفايات عن شيء من بقايا الطعام يملؤن به بطونهم الخاوية، وآخرين يلعبون وسط بركة للمياه الآسنة.. في هذا المكان لم يكن هناك من ذكر للأمير أو حتى مايرمز لوجوده سوى بقايا رأس تمثال مشوه ليس فيه أية ملامح، ملقاً في أحد الأركان، أتخذ منه الأطفال مكاناً للتبول..... رأى في براءة أولئك الأطفال صورة طفليه، حين أخذوا عنوة من زوجته (ننشيدا) لوشمهم بوشم العبودية لإكمال دَينه المفروض عليه.... (ياترى أين هم الآن، ما هو حالهم، جائعين، عطشى، أم ترى عمل العبيد قد هدّ أجسادهم الغضة النحيلة).... أستعاد تفاصيل ذلك اليوم الأليم عندما هاجمهم جنود الأمير مع جباتهم لأخذ أرضهم وغِلتهّا، كيف دافعت زوجته ببسالة عنها، لقد أنقضّت كاللبوة الكاسرة على الجنود حين حاولوا اختطاف طفليها... (أه ما أشجعك يا (ننشيدا)). لقد قتلت جنديين بمنجلها قبل أن تمزق جسدها حراب المجرمين... كانت تقول دوماً (أن الحياة قصيرة، فلنعيشها أذاً بكرامة).... نعم لنعيشها بكرامة، لكن أي كرامة تبقت بعد قتل الأحبة واستباحة الأرض واستعباد الأطفال... لقد أمتزجت هذه الأرض بدموعنا وعرقنا، والآن غدت أغلى بعد أن أرتوت بدماء من نحبهم، فكيف نعطيها للأمير؟ لا، محال ان يحدث هذا.. (لا يا (ننشيدا) لن أعطيها لهم ولن أكون أقل شجاعة منك). (ها أنا ذاهب الى ذلك المِسخ الذي تقطر من أنيابه دماء أبناء (لكًش) لأقول له.. لن أتنازل عن أرضي مهما يكن، ولا تحلم أن أختم لك يوماً ذلك الصك الجبان، لقد أخذتها عنوة، لكنها ستظل أبد الدهر مقرونة بأسمي وأسماء أولادي الذين سيظلون يطالبون بها، ولابد أن يستردوها يوماً).
كان كلما أقترب من القصر تبدأ صور النفاق والكذب والدجل بالازدياد، مُتجلية بمنظر الكهنة واقفين مُتصلبين مُتبسمرين كرموز النحس أمام معابدهم الدهماء، يبتهلون بصوت عال (لتحمي الآلهة أميرنا وتقوي سلطانه)، (أنه اختيار آلهتنا المباركة)، (لتزيد الآلهة من ثروات الأمير كي يعم البلاد الخير)... وبين تلك المعابد انتشرت منحوتات كبيرة احتوت صوراً للأمير بهيئات عدة، تارة تراه شاهراً سيفه ليهدد ويتوعد، ثم تارة يبتسم ابتسامة المُتشمتين، وأخرى رافعاً يده علامة النصر على شعبهِ الجائع المُضطهد، مقرونة بكتابات تمجد حكمه البغيض.. (الأمير الذي أنتصر على أعداء الآلهة)، (الأمير الذي أحبته الآلهة من دون البشر)، (الأمير واهب الخير وباني المعابد)... وعند أحد تلك المعابد كان أحد الكهنة قد أختلى ببعض الجَهلة المُخدرين ليفتي بهم (أمنحوا كل ما لديكم من أجل الأمير)، (جوعوا ليشبع الأمير)، (أذا شبع الأمير شبعت الآلهة، هل ترضوا أن تجوع الآلهة؟).. لكن ما أزدراه أكثر كان لدى مروره بزقورة المدينة، ليرى صفاً طويلاً من الرجال والنساء المُتعبدين يرتقون درجات سُلمها نحو معبدها العلوي.. وهم يثنون أذرعهم الى بطونهم مطأطئي الرؤوس بطريقة مُذلة مُهينة، حتى لم يعودوا يرون سوى أقدامهم... يالها من مفارقة أن يُفرض على الأنسان أذا أراد أن يرتقي العُلى أن يذل نفسه ويحني جبينه.. لكن لماذا هو رغم مما لاقاه من ظلم وحيف وألم، أستطاع حقاً أن يحني ظهره لكن هامته بقيت شامخة شموخ النخيل لم يحدث أن حناها يوماً ألا ليقبل يد أمه أو خدود أطفاله... ياترى هل هذا هو قدر الكادحين، أن يُضحوا دوماً بكل شيء من زهو الحياة ليكسبوا كرامتهم وعزة نفسهم التي هي الدنيا كلها بالنسبة لهم.... (هيهات أيها الأمير أن تحني هامتي.. لقد قتلت زوجتي، واستعبدت أطفالي واستحوذت على أرضي وبكل يُسر تستطيع قتلي أنا أيضاً، لكن رأسي ستبقى مرفوعة، وستظل عيناي أبداً تقابلان الشمس).
مع أختلاط دوامة الأفكار في رأسه مقرونة بما آل اليه جسده المُنهك، ليجد نفسه في تالي المطاف وآخر الطريق، وجهاً لوجه أمام قصر الأمير ببوابته الكبيرة السوداء الشبيهة ببوابات الجحيم، الى جانبيها أنتصب حراسها المدججين بالسلاح.. توقف لحظات، هل يواصل مسيرته نحو ذلك القدر المجهول... نظر طويلاً الى الحراس بصورهم الكالحة القبيحة وسيوفهم القاطعة اللماعة، فكر قليلاً ثم تمتم مع نفسه... (أنها قصيرة.. حقاً أنها قصيرة).
*************
تدور أحداث هذه القصة الخيالية المُفترضة في مدينة (لكًش) السومرية عام 2400 ق.م، قبيل اندلاع ثورتها العارمة التي أطاحت بالسلطة الحاكمة هناك، والتي تعتبر أول ثورة شعبية في التاريخ .
1691 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع