أ.د. ضياء نافع
ولد الكاتب الروسي المعروف مكسيم غوركي عام 1868, بينما ولد تولستوي عام 1828 ,
وكما هو واضح فان الفرق في السن بينهما كبير جدا, ولكن رغم ذلك فانهما تعارفا والتقيا في نهاية القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين , وقد كتب غوركي مقالة طويلة عن تولستوي تم نشرها لاول مرة عام 1919 ( اي بعد تسع سنوات من وفاة تولستوي ) في كتيب خاص وبمقدمة توضيحية صغيرة كتبها غوركي نفسه واشار فيها الى انه كتب هذه الملاحظات على اوراق مبعثرة وانها قد ضاعت منه الا انه وجد بعضها وقرر نشرها مع رسالته غير المكتملة الى كورولينكو, و اعيد نشر نص هذا الكتيب في المجلد الرابع عشر من مجموعة المؤلفات لغوركي والذي صدر عام 1951 , وتم نشره ايضا في كتاب – تولستوي في ذكريات معاصريه , والذي سبق لي ان كتبت عنه ( انظر مقالتنا بعنوان – تولستوي في ذكريات معاصريه) , وتقع مقالة غوركي في هذا الكتاب الصادر عام 1955 في موسكو ب ( 46 ) صفحة من القطع المتوسط وتتضمن قسمين , القسم الاول يحتوي على (44 ) فقرة منفصلة عن بعضها البعض حول افكار تولستوي واقواله له في لقاءآت مختلفة وعديدة وذكرياته عنه والتي كتبها غوركي – بالاساس - في عامي 1901 و 1902 عندما كان في ايطاليا للعلاج و حيث كان تولستوي هناك ايضا ولنفس الغرض , وقد اشار تولستوي نفسه في يومياته في تلك الفترة الى زيارات غوركي العديدة له هناك , اما القسم الثاني فيحتوي على مسودة رسالة مطولة كتبها غوركي الى كورولينكو ( لكنه لم يستطع ان يرسلها له لاحقا ) حول هروب تولستوي من بيته في ياسنايا بوليانا , ثم وفاته في احدى محطات القطار كما هو معروف . لقد ذكرت في مقالتي التي أشرت اليها اعلاه الى انه من غير الممكن تلخيص ما كتبه غوركي عن تولستوي في مقالته المذكورة , وان الاطلاع على تلك المقالة المهمة والعميقة والمتعددة الجوانب يقتضي ترجمتها كاملة الى العربية , وذلك لان غوركي استخدم اسلوب كتابة فقرات منفصلة عن تولستوي ومواقفه الحياتية وافكاره الادبية والفلسفية , وكان ينتقل من موقف الى آخر بحرية واسعة ومطلقة ودون ان يضطر لربط تلك الافكار وذلك بوضع نقطة بعد كل فقرة , ثم ينتقل الى فقرة اخرى ويضع لها رقما جديدا , وهكذا وصل الى الرقم ( 44 ) , ولهذا لا يمكن تلخيص كل تلك الفقرات في اطار هذه المقالة , ولكني ساحاول في هذه السطور الوجيزة ان اتوقف عند مضامين بعض تلك الفقرات ليس الا او مقاطع منها , كي ارسم للقارئ صورة عامة ومتكاملة قدر المستطاع لهذه الملاحظات الرشيقة والذكية و العميقة التي كتبها غوركي عن تولستوي .
في الفقرة رقم 1 نجد الجملة الاتية – ( اكثر فكرة تحز في قلبه هي الفكرة عن الرب ...انه يتكلم عن ذلك أقل مما يريد ولكنه يفكر حولها دائما )// في الفقرة رقم 2 نقرأ جملة اخرى تختلف تماما – ( عنده يدان مدهشتان – ليستا جميلتين من جراء توسٌع الشرايين ومع ذلك فانهما يعبران عن قوة ابداعية ..مثل تلك اليدين كانت عند ليوناردو دافنشي..بتلك اليدين يمكن عمل كل شئ..)// في الفقرة رقم 3 يتحدث غوركي عن مفهوم الحرية عند تولستوي , ويسجل نص كلماته – ( الطيور حرة ولكنها مع ذلك تبني اعشاشها ... المسيح كان حرا وبوذا ايضا , وكلاهما أخذا على عاتقهما ذنوب العالم واصبحا أسيرين – وطواعية – للحياة الدنيا.. اما نحن فاننا نبحث عن الحرية من الواجبات امام الاخرين ..) // في الفقرة رقم 5 يتناول موقف المثقف منذ القرن الثاني عشر في روسيا , والذي كان يؤكد بعدم وجود المعجزات من وجهة نظر تولستوي , وان هذا هو موقف المثقفين عبر كل القرون التي مرٌت بعد ذلك , ولكن تولستوي ينهي هذا الحديث قائلا – ( ومع هذا فان الشعب كله يؤمن بالمعجزات لحد الان كما كان يؤمن بها منذ القرن الثاني عشر..) // في الفقرة رقم 6 يتحدث غوركي عن رأي تولستوي حول حكايات اندرسن وكيف انه لم يفهمها في البداية , ولكنه عندما اعاد القراءة بعد عشر سنوات وصل الى قناعة تامة مفادها ان اندرسن كان – ( وحيدا جدا جدا , و لهذا بالذات توجٌه للاطفال , و كأن الاطفال يمكن ان يواسوا الانسان اكثر من الكبار. الاطفال لا يواسون , انهم لا يستطيعون ان يواسوا ) // في الفقرة رقم 7 يقول غوركي ان تولستوي نصحه ان يقرأ تعاليم البوذية , ولكنه اشار الى ان تولستوي لم يكن يتحدث عن بوذا او المسيح بحماس متأجج كبير ولم تكن في كلماته – ( تلك الشرارة النابعة من نيران القلب ) // في الفقرة رقم 8 يكتب غوركي رأي تولستوي حول المؤرخين الروس المشهورين – (كارمزين كان يكتب للقيصر , سالوفيوف – بشكل مطوٌل وممل , اما كليوتشيفسكي المخاتل , فانه كان يكتب للتسلية , وعندما تقرأ – كأنما يمدح , ولكن عندما تتعمق بالقراءة فانه كان يقدح . ) // في الفقرة رقم 11 ذكر لنا غوركي رأي تولستوي بالرومانسية – ( الرومانسية – هي الخوف من النظر في عيون الحقيقة ) , وعندها اعترض احدهم على ذلك وقرأ له قصيدة , قال له تولستوي انها ليست قصيدة وانما – ( نسيج كلمات بلا معنى ) , وعندما اشتد النقاش , ابتسم تولستوي وقال له – ( انك اليوم متقلب الاهواء مثل فتاة حان وقت زواجها ولكن لا يوجد لديها العريس ) // في الفقرة رقم 13 يقول غوركي , لو ان تولستوي كان سمكة فانه كان سيسبح فقط في المحيطات , وانه لن يسبح ابدا وسط البحار او في مياه الانهار// في الفقرة رقم 24 يكتب غوركي نص كلمات تولستوي وكما ياتي – ( المرأة اكثر اخلاصا بجسدها من الرجل , اما الافكار عندها فكاذبة , لكن عندما تكذب فانها لا تصدق نفسها , اما روسو فانه كان يكذب ويصدق نفسه ) // في الفقرة رقم 27 يتحدث غوركي عن تلك الاسئلة الصعبة والحرجة التي كان تولستوي غالبا ما يحب طرحها ويعطي لنا امثلة منها –
- هل تحب زوجتك ؟
- ماذا تفكر انت حول نفسك ؟
- هل تظن ان ابني عبقري ؟
ما رأيك بزوجتي صوفيا اندرييفنا ؟
ويضيف غوركي قائلا , انه من غير الممكن ان تكذب امام تولستوي , ويختتم هذا المقطع بسؤال طرحه عليه تولستوي مرة وهو –
هل تحبني يا اليكسي ماكسيموفيتش ؟ //
من الممكن ان نذكر هنا طبعا الكثير من تلك الجمل و الاستمرار بهذه المقاطع المختلفة والمتنوعة من مقالة غوركي عن تولستوي , ولكني اظن ان طبيعة مقالتنا لا تسمح بذلك , ومع هذا يمكن لنا ان نقول – وبكل ثقة - ان تلك المقاطع التي ذكرناها هنا كافية جدا لاثبات طرافة ورشاقة تلك المقالة وروحيتها الابتكارية وعمقها الاصيل وغرابة اسلوبها , وان مكسيم غوركي قد استطاع فعلا ان يرسم صورة قلمية في غاية الجمال لتولستوي , الذي كانوا يطلقون عليه تسمية – كاتب الارض الروسية العظيم .
1016 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع