أ.د. ضياء نافع
قرأت قبل فترة مقالة جميلة بقلم الاستاذ سمير عطا الله في جريدة الشرق الاوسط اللندنية بعنوان ( خارج الموضوع ..صلب القضية ) عن الصحافي اللبناني سليم نصار , وفي نهاية تلك المقالة جاء ما يأتي –
( ...ويروي كيف التقى ذات يوم على مدخل المبنى الذي يقع فيه منزله امرأة بائسة. سلٌم عليها وسألها ان كان في استطاعته ان يساعدها في شئ . اجل , قالت المرأة البائسة , انها في حاجة الى ألف جنيه استرليني لأن المساعدة الاجتماعية التي تتلقاها قد نفذت. السيدة كانت سفيتلانا , ابنة ستالين ).
أثارت هذه السطور اشجاني واحزاني بكل معنى الكلمة , وأخذت أستعرض الاحداث المرتبطة بتلك المرأة في ذاكرتي مثل شريط سينمائي يعرض امامي ,منذ
اللحظات التي سمعت بها خبر هروب سفيتلانا ابنة ستالين من الاتحاد السوفيتي حينئذ عام 1967, حيث كنت آنذاك طالب دراسات عليا في جامعة باريس , وتذكرت كيف كانت ردود فعل اللاجئين الروس هناك وفرحهم الكبير و العارم وغير الاعتيادي بهذا الحدث المثير جدا , اذ انه كان يعني – بالنسبة لهم – اشارة واضحة المعالم ( رغم انها جاءت متأخرة جدا ) تؤكد صحة قرارهم المصيري والحاسم حول رفضهم ثورة اكتوبر 1917 في روسيا والهجرة من وطنهم الى الغرب , وتذكرت ايضا وجوم كل القوى اليسارية الفرنسية عموما وخيبتهم وهم يتلقون هذا الخبر , وتذكرت وجوم اليساريين العرب بشكل عام و من كل الاتجاهات ( الذين كانوا يحيطوننا في باريس ) عندما سمعوا بهروب ابنة ستالين الى الغرب , وتذكرت عناوين الصحف الفرنسية والصور المتنوعة المنشورة فيها حول كل ذلك , وتذكرت صحيفة ( روسكايا ميسل)( الفكر الروسي ) الروسية , والتي كانت تصدر في باريس آنذاك , والناطقة باسم اللاجئين الروس , وتذكرت ان احدى بنات تولستوي في امريكا- كما جاء في الاخبار حينها – قد استقبلتها و دعتها للعشاء هناك , وكيف كانت مواقف اللاجئين الروس حول ذلك العشاء على الارض الامريكية وتعليقاتهم بشأن لقاء ابنة كاتب الارض الروسية العظيم تولستوي بابنة ستالين , هذا اللقاء الذي لم يكن يخطر طبعا لا ببال تولستوي او ستالين حتى بالاحلام او الكوابيس ! وتذكرت كيف اننا - بعد فترة وجيزة نسبيا - تلاقفنا الكتاب الذي اصدرته سفتلانا بعنوان – (عشرون رسالة الى صديق ), والذي صدر بعدة لغات اوروبية , وتذكرت خيبة الامل عند معظم القراء بعد مطالعتهم لهذا الكتاب ( وانا منهم طبعا , اذ قرأته بالروسيُة ), لأننا لم نجد فيه جوابا توضيحيا شافيا ومقنعا ومنطقيا بتاتا عن سبب هروب ابنة ستالين من وطنها, وتذكرت كتابها الثاني الموسوم ( سنة واحدة فقط ) والذي صدر بعدة لغات ايضا , بما فيها العربية ( سمعت انه صدر في لبنان بالعربية في حينها , ولكني لم اطٌلع عليه ). قرأت انا هذا الكتاب بالروسية ايضا , ولكن دون حماس كبير( بعد خيبتي بشأن كتابها الاول ! ) . و اتذٌكر الان منه فقط بعض مقاطعه ليس الا, و منها - موقفها تجاه سفير مصر آنذاك في موسكو الدكتور مراد غالب , وكيف انها مدحته وأشادت بثقافته واعتبرته عميدا للسلك الدبلوماسي بموسكو , وتحدثت عن معرفته العميقة للغة الروسية وآدابها واحترام جميع الاوساط السوفيتية الرسمية والاجنبية له , بما فيها سفيتلانا نفسها طبعا ( انظر مقالتي بعنوان غوركي ومراد غالب ) , و أتذكٌر كذلك مقطعا عن الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت , الذي كتبت عنه انه حالم جميل اصطدم بالواقع السوفيتي الرهيب ( انظر مقالتي بعنوان ناظم حكمت وروسيا ). لقد بحثت أنا عندئذ في ثنايا ذلك الكتاب عن اشياء جديدة في تاريخ الاتحاد السوفيتي واسراره , كنت أظن انه ربما كانت تعرفها ابنة ستالين بالذات , ولكني لم اجد تلك الاشياء , ولم أجد معلومات جديدة ومخفية عن ستالين , هذه الشخصية المتميُزة في مسيرة الاحداث الهائلة تلك , اذ اننا جميعا كنٌا نعلم انه شخصية بسيطة من حيث ثقافته ومتطلبات حياته , وقاسية وشديدة ومعقدة ودموية في آن واحد بالنسبة لادارته للدولة , وان الصراع الذي كان يجري حوله معروف , وان ( اللعنة ) التي كانت تؤكٌد عليها في كتابها ذاك تكمن في كونها ابنة ستالين , وهي لعنة لاحقتها طوال حياتها طبعا , وان ظاهرة ابناء الكبار ليست جديدة في التاريخ الانساني, اذ ان هذا الموقع والارتباط العائلي ينعكس حتما على مصائر هؤلاء الابناء و مسيرة حياتهم .
بعد كل تلك السنوات , منذ هروب سفيتلانا من الاتحاد السوفيتي والضجٌة العالمية التي أحدثتها آنذاك, الى عودتها مرة اخرى الى موسكو زمن غاربوتشوف , والى رجوعها الى الغرب ثانية , والى تصريحات ابنتها بانها لا تعترف بها ولا ترغب ان تراها , و الى زواجها مرة اخرى واخرى في الغرب , و الى حياتها التعيسة والبائسة والمنبوذة هناك ,و الى شجب الروس عموما لتصرفاتها , و الى نسيانها ,و الى وصولها الى تلك الوضعية المؤلمة , و الى ان يصل الامر ان يكتب صحافي عربي عنها انها تطلب منه مبلغا من المال لان المساعدة المالية قد نفذت , و الى كل هذا البؤس والفاقة , و الى وفاتها اخيرا (2011) في امريكا وقد طواها النسيان , وهي الابنة الوحيدة لستالين, و التي ولدت في موسكو عام 1926 ...
كم يبدو ذلك الحدث التاريخي - من بدايته الى نهايته - مؤلما ورهيبا وقاسيا وتراجيديا بالنسبة لابنة شخص مثل ستالين , الذي حكم الاتحاد السوفيتي لثلاثين سنة تقريبا وخرج منتصرا في الحرب العالمية الثانية ( رغم كل ما قيل ويقال عنه وما يرتبط به من احداث جسام ووقائع هائلة ! ), والذي لا يزال اسمه يثير الكثير من النقاشات والصراعات لحد الآن في روسيا وخارجها.
وكم يبدو ذلك الحدث التاريخي ايضا درسا عظيما للانسانية ...
999 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع