قصة مدينة: بغداد دار السلام

                                   

                      نواف شاذل طاقة

           

  

يقول الخطيب البغدادي (1002-1071م) في كتابه  "تاريخ دار السلام" بأن بغداد لم تكن قبل الفتح الاسلامي سوى قرية صغيرة خاضعة لحكم مملكة العجم "يجتمع فيها رأس كل سنة التجار، ويقوم بها للفرس سوق عظيمة تأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد". فلما توجه المسلمون إلى العراق وشرعوا بفتح البلاد ذُكر للمثنى بن حارث الشيباني أمر سوق بغداد، فداهمها بنصيحة من أهالي الحيرة بينما كان في طريقه نحو الاجهاز على عرش كسرى سنة 14 للهجرة (636م).

ويبدو أن بغداد ظلت قرية منسية طيلة أكثر من 120 سنة بعد فتح العراق لم يلتفت إليها أحد حتى مجيء العباسيين إلى الحكم، حيث يقول الكاتب البريطاني جوستن ماروزي، في مقال نشرته صحيفة غارديان البريطانية مؤخرا أن أبا جعفر المنصور (714- 775م) كان يبحث عن عاصمة لخلافته فراح يمخر في نهر دجلة صعودا ونزولا حتى قابل رهباناً نسطوريين دلوه على بغداد كموقع مؤات لعاصمته المرتقبة. وينقل ماروزي عن اليعقوبي، الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، قوله أن بغداد تميزت بموقع مثالي وبدت أنها "مفترق طرق الكون".

وهكذا وقع اختيار الخليفة العباسي على بغداد حيث أطلق عليها اسم دار السلام وشرع ببنائها سنة 140 للهجرة في يوم يوافق في الثلاثين من تموز سنة 757م. وقد جلب المنصور الألوف من المهندسين والخبراء من أقطار الدنيا لبناء مدينته هذه التي أراد لها أن تكون مدورة وقيل "لا يُعرف في أقطار الدنيا كلها مدينة مدورة سواها". وقد اراد المنصور لعاصمته أن تكون متساوية الابعاد، فجعل لها أربع بوابات ذات أبعاد متقاربة، وسماها حسب وجهاتها: باب الحجاز، وباب الشام، وباب البصرة، وباب خراسان. وكان كل باب من هذه الابواب مقابلا لقصره الذي أطلق عليه قصر (الخلد) تيمنا بجنة الخلد، وبنى فوق كل باب في قصره قبة، وجعل فوق ابوابها أبراجاً.  وذكر البغدادي أن اسوار بغداد بنيت وفق حسابات دقيقة حتى أن اللبنات التي استخدمت في البناء كانت بأوزان محددة إذ ينقل عن ابن الشروي قوله: "هدمنا من السور الذي يلي باب المحوَّل قطعة، فوجدنا فيها لبنة مكتوب عليها بمُغرة: وزنها مئة وسبعة عشر رطلاً. قال: فوزناها فوجدناها كذلك".

وكانت في قصر (الخلد) قبة خضراء عظيمة فضلا عن قباب أخرى أصغر منها وعلى رأس كل قبة منها تمثال تديره الريح ليس له مثيل. وكان في صدر قصر المنصور إيوان كبير فيه تمثال فرس وعليه فارس. وكانت القبة الخضراء ترى من أطراف بغداد، بينما كان الماء ينقل إلى ابناء المدينة على مدار الساعة، حتى قام المنصور في وقت لاحق بشق أنهر صغيرة تخترق المدينة وتروي أهلها وأسواقها وحدائقها. كما كانت المدينة تكنس كل يوم، يكنسها الفراشون، ويحمل التراب إلى خارج المدينة. ويُحكى أن وفدا من الروم قدم لزيارة دار السلام والتقى بالخليفة المنصور فاخبروه ببعض مما عابوه عليها ومن بين ذلك قولهم أنها تفتقر إلى الحدائق الغنّاء للهو والخلوة، فأجابهم المنصور "بأننا لم نخلق للهو واللعب". وقد فتنت بغداد من زارها، وربما حسدتها عيون الحساد، إذ يقول عنها الجاحظ: "رأيت المدن العظام، والمذكورة بالاتقان والأحكام بالشًّامات وبلاد الروم وفي غيرهما من البلدان، لم أرّ مدينة قط أرفع سمكاً ولا أجود استدارة، ولا أنبل نُبلاً، ولا أوسع أبواباً ولا أجود فصيلاً، من الزوراء.."

وقد اكتمل بناء دار السلام سنة 149 للهجرة إذ حُكي أن أحد علماء الفلك في زمانه قال للمنصور، في وصفه حسن طالع ساكنها: ابشرك يا أمير المؤمنين أكرمك الله بخلة أخرى من دلائل النجوم: لا يموت فيها خليفة من الخلفاء أبداً. وقيل أنه لم يمت في المدينة خليفة سوى الخليفة محمد الأمين، في حين قال التنوخي بأن الأمين لم يقتل فيها وانما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة فقبض عليه وسط دجلة خارج المدينة.

وعن شخص الخليفة المنصور نفسه يقول المؤرخ جلال الدين السيوطي (1445-1550م) أن المنصور كان فحل بني العباس هيبةً وشجاعةً، وحزماً ورأياً وجبروتاً،  جمَّاعاً للمال، تاركاً للهو واللعب، كامل العقل، وأنه كان فصيحاً بليغاً، مفوهاً خليقاً للامارة، وكان غاية في الحرص والبخل، فلقب أبا الدوانيق؛ لمحاسبته العمال والصناع على الدوانيق والحبات. وفي عهده يقول الذهبي أن علماء الاسلام شرعوا لأول مرة في تدوين الحديث والفقه والتفسير، ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس وقبل هذا العصر كان الائمة يتكلمون من حفظهم، أو يروون العلم من صحيفة غير مرتبة.

وعاشت بغداد عرسها عقودا طويلة وكانت عاصمة الدنيا بحق حتى أصابها ما أصاب سواها من "العمران" كما يقول ابن خلدون في مقدمته، ففسدت ثم هرمت. وكان أحد المؤشرات على زوال عظمتها سقوط القبة الخضراء في قصر الخلد بعد نحو 180 سنة من بنائها على عهد الخليفة المتقي لله في ليلة ذات مطر ورعد. وفي سنة 756هـ الموافق 1258م شن التتار عدوانهم على بغداد وبلغوا نحو مئتي ألف رجل يتقدمهم هولاكو حيث دخلوها في العاشر من محرم سنة 656 للهجرة، الموافق 17 كانون الثاني 1258م. ولم يستكمل دخولهم إلى المدينة إلاّ بعد خيانة الوزير (العلقمي) للخليفة المستعصم بالله بعد أن أقنعه بأنه سيخرج للتفاوض معهم. وهنا يصف السيوطي بقية ما حدث: "فخرج (العلقمي) وتوثق بنفسه منهم فعلم ورد إلى الخليفة وقال: إن الملك قد رغب أن يزوج ابنته بأبنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة؛ كما أبقى صاحب الروم في منصبه، ولا يؤثر إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف عنك بجيوشه، فيجيب مولانا إلى هذا؛ فان فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، والرأي أن تخرج إليه، فخرج اليه في جمع من المسلمين، فاُنزل في خيمة". ويمضي السيوطي في روايته قائلا: "ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد، فضربت اعناقهم، وصار كذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب اعناقهم،  حتى قتل جميع من هناك من العلماء والامراء والحجاب والكبار، واستمر القتل في بغداد نحو اربعين يوما، حتى قيل أن عدد القتلى بلغ نحو ألف ألف نسمة (مليون انسان)، ولم يَسْلم إلا من اختفى في بئر أو قناة. وقيل أن الخليفة قتل رفساً، وقال الذهبي: (وما أظنه دفن). أما العلقمي، فيقول عنه البغدادي أنه لم ينل ما أراد وعومل معاملة الغلمان، "وذاق من التتار الذل والهوان، ولم تطل ايامه بعد ذلك" حتى مات كمداً.

ولا أظن أن ثمة وصفا أصدق لحال العراق بعد غزو التتار له من قول هولاكو نفسه في إحدى رسائله التي جاء فيها: "دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وأذقناهم العذاب، وجعلنا عظيمهم صغيراً، وأميرهم أسيراً". ولعل السيوطي لم يخطئ عندما قال قبل نحو ست مئة سنة بأن ما وقع في العراق كان "بلية لم يصب الاسلام بمثلها".

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع