فتحت المذبحة التي تعرضت لها مدرسة ابتدائية في ولاية كونيتيكت الأمريكية من جديد، الجدل اللانهائي حول العنف والسلاح في الولايات المتحدة الأميركية. فقد اخترق المدرسة شاب في العشرين من عمره يعاني اضطرابات نفسية، وفتح النار بشكل عشوائي فقتل عشرين طفلاً في عمر الزهور ومعهم ستة من البالغين، بعد أن كان قد قتل أمه في مخدعها قبل أن يذهب للمدرسة، بسلاحها نصف الآلي. وبعد أن انتهى الشاب من سلسلة القتل الجماعي تلك، قتل نفسه برصاصة في الرأس.
والواقعة رغم بشاعتها، ليست الأولى من نوعها في أميركا. فهناك وقائع كثيرة مماثلة، لعل أشهرها تلك التي حدثت في مدرسة كولومباين في ولاية كولورادو عام 1999، والتي فتح فيها مراهقان النار على زملاء دراستهما، فراح ضحيتهما 12 طفلاً وبالغاً و20 جريحاً، فضلاً عن المراهقين القاتلين نفسيهما.
وفي كل مرة تحدث واقعة مشابهة، يتجدد الجدل الذي لا ينتهي حول تداول السلاح وامتلاكه. وبينما يرى فريق أن التداول الواسع للسلاح ليس هو المشكلة، وأن الحل هو تغليظ العقوبات على المجرمين، يرى الفريق الآخر أن فوضى تداول السلاح مسؤولة عن انتشار أسلحة خطرة للغاية، كالأسلحة الأوتوماتيكية وشبه الأوتوماتيكة التي تساعد على القتل العشوائي عبر دورات متتالية من الرصاص.
والحقيقة أن الخلاف الشديد بين الطرفين، يتعلق بعادات تضرب جذورها في عمق الثقافة الأميركية. فاقتناء المواطنين للسلاح يعتبر، بالذات في ولايات الجنوب والغرب وخاصة في المناطق الريفية، جزءاً من الثقافة السائدة لهذه المناطق، فطالما اقتنى المواطنون السلاح هناك للصيد أو للرياضة، فالقنص من بين الرياضات المحببة للأميركيين.
لذلك، يوجد قطاع واسع من المواطنين الذين يسكنون المناطق النائية التي تقل فيها الجريمة، ممن لا يفهمون لماذا يكون من حق الحكومة الفيدرالية أن تفرض قيوداً على امتلاك السلاح وتداوله، وتفسد عليهم متعتهم من أجل حماية حياة مواطنين آخرين يعيشون في مناطق أخرى. ويعتبر هؤلاء أن حقهم في اقتناء السلاح وتداوله، حق كفله لهم الدستور الأميركي بموجب التعديل الثاني له، والذي ينص على حق المواطن الأميركي "في حمل السلاح وحيازته".
غير أن القضية في الواقع ليست حرمان المواطنين من حقهم الدستوري في اقتناء السلاح، وإنما هي تنظيم ممارسة هذا الحق. ورغم أن المحكمة العليا قالت: إن تنظيم الحق أمر دستوري، إلا أن هناك مصالح كبرى تقف ضد أي محاولة لوضع قيود على تدوال الأسلحة واقتنائها.
فصناع ومستوردو السلاح والذخيرة يشكلون قوة ضغط معتبرة، ويساندهم في ذلك الاتحاد العام للبندقية الذي يعد واحداً من أعتى جماعات المصالح الأميركية وأكثرها نفوذاً. فالاتحاد يفخر بأنه ناجح للغاية في إلحاق الهزيمة الانتخابية بأي عضو في الكونغرس يجرؤ على الوقوف ضده، وهو أنفق في انتخابات 2012 ما يزيد على 18 مليون دولار لإلحاق الهزيمة بمن وقفوا ضده وانتخاب غيرهم.
والحقيقة أن المجتمع الأميركي مدجج فعلاً بالسلاح، والقوانين محدودة للغاية وفيها فجوات خطيرة. فعلى سبيل المثال، لم تخضع صناعة السلاح والذخيرة تقليدياً لقيود تذكر، فهي اقتصرت على الحصول على رخصة مقابل دفع رسم سنوي. أما الاتجار بالسلاح فالحصول على رخصة لممارسته سهلة للغاية، ولا تنص القوانين على تسجيل الذخيرة أو السلاح المصنع، ولا حتى تسجيل السلاح عند بيعه وتداوله.
وقد نجحت جماعات المصالح دوماً في إجهاض أغلب المحاولات التي سعت لتنظيم تداول السلاح، طوال القرن العشرين. فعلى سبيل المثال، صدر في عام 1934 قانون ينص على تسجيل عدد محدود من أنواع السلاح وليس كلها، ولكنه لم يتم تحديثه منذ ذلك التاريخ فصار بلا أثر حقيقي، لأن الأسلحة المستحدثة لم تدرج فيه.
وفي 1938، تم النص على الحصول على ترخيص للاتجار في السلاح، وفي 1968 تم حظر بعض أنواع الأسلحة. لكن وصول ريغان للحكم أدى للتراجع عن تلك القواعد المحدودة للغاية، حيث صدر ما سمي بقانون "حماية ملاك السلاح" في 1986، الذي قلص القيود المفروضة على الاتجار بالسلاح والذخيرة.
لكن ارتفاع معدلات الجريمة في التسعينيات، أدى في 1994 إلى صدور قانونين نص أولهما على حظر 19 نوعا من الأسلحة شبه الأوتوماتيكية، بينما نص الثاني على خضوع الراغب في شراء السلاح، لفترة انتظار تتمكن خلالها أجهزة الأمن من فحص سجله الجنائي والشخصي، للتأكد من عدم وجود خطر في امتلاكه السلاح. إلا أن القانون الأول انتهى العمل به في 2004، حين رفض الكونغرس الجمهوري وقتها مد العمل به.
أما قانون فترة الانتظار، والمعروف باسم قانون بريدي، فلايزال سارياً. وهو بالمناسبة منسوب إلى جيم بريدي، السكرتير الصحفي لريغان الذي أصيب إصابة خطيرة أثناء المحاولة الفاشلة لاغتيال ريغان، أدت لإقعاده مشلولاً مدى الحياة، فصار هو وزوجته من أشهر من يناهضون الفوضى في امتلاك السلاح وتداوله. إلا أن ثغرة في القانون تحد بشدة من فاعليته، فهو لم يغط معارض السلاح التي تقام الآلاف منها كل عام في الولايات المتحدة.
ففي هذه المعارض يبيع المواطنون أسلحتهم ويشترونها من بعضهم، دون أي رقيب بعيداً عن أعين القانون.
وقد استخدم القاتل في مذبحة نيوتاون سلاحاً شبه آلي، كان ملكاً لوالدته التي كانت تقتني سلاحين لا واحداً، الأمر الذي فتح من جديد ذلك الملف، تماماً كما يحدث في كل مرة تقع فيها واقعة أليمة. لكن السؤال المهم هو؛ هل سيكون مقتل 20 طفلاً في سن السادسة والسابعة دافعاً هذه المرة للجدية في التعامل مع الموضوع، أم سيظل النظام الأميركي أسير جماعات المصالح القوية؟
1208 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع