كشكول العلوم والمعارف الشيخ جلال الحنفي

                                           

                             علي الكاش
                         مفكر وكاتب عراقي

     

من الأقوال المأثورة قديما" عجائب بغداد ثلاثة، إشارات الشبلي، نكت المرتعش وحكايات جعفر"، أما الإعجوبة الرابعة فهي برأينا المتواضع عبقرية الشيخ جلال الحنفي.

لبغداد القديمة شذاها الفواح ونسيمها المرهف وجمالها الساحر، بلا أدنى شك أن بغداد الخميسينيات والستينيات مميزة في كل شيء، إنها ليست بغداد العقود التي تلتها. لا يحس بهذا الفارق الكبير وما طرأ عليها من تغييرات وتطورات وإخفاقات ونكسات إلا من عاش تلك الفترة وما تلاها ليتمكن من عقد مقارنة حقيقية بين ما كان وما آل اليه الوضع العام. عندما يستذكر العراقي بغداد القديمة يخطر على البال ملوك العراق الثلاثة بعظمتهم وإستقامتهم ونزاهتهم، وسياسو العهد الملكي واخلاصهم ووطنيتهم وحبهم للعراق وطنا وشعبا، وفي الجهة المقابلة يستذكر المرء أكبر العمالقة في العلوم والأدب والقانون والشعر والفن والغناء والتأريخ والإجتماع والإقتصاد. حيث تحتشد الآلاف من الأسماء في الذاكرة العراقية، لا نذكرها خشية من نسيان أحد من العمالقة فنرتكب الخطأ الفادح.
قالوا سلفنا أن التأريخ لا يعيد نفسه، قلنا هذا صحيح، والأمجاد أيضا لا تعيد نفسها، مع جلٌ إحترامنا وعرفاننا بالخلف وكبار الرموز في شتى مجالات المعرفة، لكن هيهات أن يحلوا محلٌ السلف، على أقل تقدير هم تلاميذ لهم، وهذا ديدن التأريخ. قارن في أي حقل من حقول المعرفة بين القدامى والأجيال اللاحقة وستدرك الفرق فورا.

            
كان الشيخ الحنفي رحمه الله يجيد عدة لغات منها الانكليزية والصينية والتركية والكردية والفارسية وقليلاً من الاسبانية والفرنسية والالمانية والعبرية. كتب مسودة قاموس (عربي – صيني) لكن عبث الأقدار حرمنا منه، فقد أتلفته مياه البحر خلال عودته من الصين إلى العراق. وكتب الكثير من الكتب ـ مدونة في أدناه ـ كما حقق كتاب أعيان البصرة للراحل باش أعيان عام 1960، و كتاب الدر النقي لأحمد بن عيد الرحمن القادري عام 1964.
للشيخ الحنفي صولات وجولات في ميدان الثقافة والصحافة ومنها معارك حامية الوطيس مع العلامة الأثري والشاعر الرصافي والخالصي وجواد علي وبديع شريف وعلي الوردي وأحمد الكبيسي وشيوخ الأزهر وغيرهم. ولا شك ان معارك الأقلام هي المعارك الوحيدة التي ليس فيها خسارة للطرفين المتحاربين ولا المتابعين لتلك المعارك، الجميع يستفيدون منها. الأطراف المتحاربة تشحذ ذاكرتها وتغذي افكارها وتنشط عقليتها، كما تحث السجالات المتحاربين على إستخدام الحجج العقلية والأدلة القطعية لإثبات وجهة النظر، والرجوع إلى المراجع والمصادر للإستزادة من المعلومات لدعم الحجج والتذكر والتذكير، وتحليل كلام الطرف المقابل وتحديد مواطن الضعف والوهن فيه واستغلالها للهجوم عليه. كما أن المتابع للمعارك تتفتح آفاق فكره وتزداد ثروته الثقافية من تجارب العمالقة، وهو يمثل الحكم بين الطرفين المتصارعين في حلبة الفكر.
عندما يستذكر المرء بغداد لا يمكن إلا أن يتوقف عند محطة عاشق بغداد الشيخ جلال الدين الحنفي رحمه الله، وطيب ثراه الطاهر. إنه عاشق بغداد الذي كابد من عشقها أضعاف ما كابده  قيس من عشق ليلي وجميل من بثينة، إنه الفقيه والقاضي والشاعر والخطيب والعالِم الموسوعي والكاتب والصحفي والمؤرخ واللغوي والأديب وعالم المقام والعروض والأمثال والتجويد، ولد في بغداد عام 1914م، وتوفى فيها يوم 5 آذار من عام 2006 عن عمر ناهز التسعين. تحلى بمميزات وخصائص متعددة ومتباينة قلما تجتمع في رجل واحد، مهما إرتقى في سلم المعرفة، لكنها إجتمعت في الشيخ الحنفي.
اللقاء مع الشيخ الحنفي فيه نكهة خاصة وهذا ما تذوقه كل من إلتقى به، ربما هي قريبة من نكهة الكباب المشوي الذي يحبه الشيخ ويدعونا إليه خلال لقاءاتنا معه، ولا ينفع الإعتذار مهما كانت الأسباب، لأنه إذا حضر الكباب تعطلت الحجج وبطلت. في كل لقاء تكون صفرة الكباب المشوي وملحقاته حاضرة في مضيف الشيخ في جامع الخلفاء. في لقاء مع الشيخ عام 2004 تحدثنا طويلا، كانما القدر ينبأنا بأنه اللقاء الأخير، بعد أن تحولت مدينة الرشيد الى مدينة الخامنئي. لم نتطرق مطلقا عن الغزو مع الشيخ كي لا نفتح جروحا تؤلمه، لمعرفتنا بأنه يصعب على الشيخ الحديث عن محبوبته بغداد وهو يراها تذبح من الوريد الى الوريد. هموم الشيخ كثيرة ولا نريد أن نزيدها وهو في محطات العمر الأخيرة. بغداد الحضارة والعلم تحولت الى بلاد اشباح، أطلال وخرائب تنعق فيها غربان ولاية الفقيه، وتطوقها ذئاب العم سام من كل حدب وصوب، ولكن يمكن للقريب منه أن يستشف من زفرات الشيخ وضعه ورأيه الذي لم يعبر عنه بالكلام. أحيانا قد يكون الصمت أفضل تعبير  عن الكلام.
إصطحبت مخطوطي الجديد (الأمثال المكشوفة) الذي ما يزال مسودة مركونة رغبة في عرضه على الشيخ والإستئناس برأيه الصائب، وربما الطلب بتقريض المخطوط بقلمه الذهبي، ولكن تشتت الحديث فتعذر الطلب،. تبسم الشيخ وهو يقلب المخطوط وتعجب من كثرة المراجع والمصادر التي إعتمدت وتجاوزت المائة. كانت تراودنا فكرة ترددنا في طرحها على الشيخ في البداية ولكن سرعان ما تبددت سحابة الخجل. أخبرنا الشيخ بأن هناك الكثير من الأمثال والكلمات العامية دخلت بغداد دون رقيب أو حسيب لغوي بعد الغزو الامريكي، لكن مع الأسف معظمها يتعلق بالقتل والخطف والسلب والتحايل والغش، فنصحني الشيخ بمتابعتها وتدوينها بغض النظر عما فيها من فحش وغرابة وقلة ذوق، لأنها تعبر عن الواقع الإجتماعي الحالي وإنعكاساته، فاللغة بنت العصر وتستمد روحها من معطياته وسلوك أفراده، وأكد بأنها مهمة للأجيال القادمة للتعرف على أحوالنا والتغييرات الإجتماعية والثقافية التي طرأت على العراقيين عموما والبغداديين بشكل خاص.
سألنا الشيخ عن الجديد منها فأخبرناه عن بعض الكلمات ومنها السوقية التي نسمعها في الشارع، وسألنا عن الأمثال الجديدة وهو ملهم بها. فضرنا له المثل ( إنضربت بوري) فتساءل ماذا يعني هذا؟ بينا إنه يعني الوقوع في فخ العش والتحايل، وأصلة إن البعض من زراع البطاطا كانوا يسوقون محصولهم منها بطريقة الذكاء الخبيث، حيث يضعون بوري سميك (إنبوب) من البلاستك داخل كيس البطاطا، يملئون الإنبوب بالحجارة والبطاطا التالفة، وخارج الأنبوب أي بينه وبين الغلاف الخارجي للكيس يضعون البطاطا الكبيرة والممتازة، ثم يرفعون البوري من الكيس ويرزمونه. ولأن الكيس من خيوط النايلون يمكن للناظر أن يرى البطاطا الممتازة فقط  في قمة الكيس ومن الخارج، دون ان يفطن ان في باطن الكيس البطاطا المغشوشة. وعندما يصل الكيس لبائع المفرد ويفتحه يكتشف حينها الغش فيقول (إنضربت بوري). قال وعلى وجهه ترتسم الدهشة: هات غيره!
ضربنا الآخر (طلع زاقها إبرة)، وقصته ان باعة العصير من الفواكه الطازجة، يزرقون البرتقال ونومي الحامض والرمان والبطيخ والموز وغيرها من الفواكه بقليل من الماء (سي سي) بسرنجة (إبرة طبية)، وعندما يطلب المواطن عصير برتقال مثلا، ترى برتقالة ونصف تملأ القدح، في حين يحتاج القدح حوالي3ـ 4 برتقالات ليمتلأ. تعجب الشيخ من هذا التحايل. وأخيرا كاشفنا الشيخ بأننا جمعنا الكثير من الأمثال البغدادية المكشوفة وأننا نعرف بأن الشيخ سبق ان تناول هذا الموضوع في كراس وكان تداوله محدودا بين الأصدقاء، ولم نتمكن من العثور عليه أبدا في سوق الكتب. قال الشيخ هذا صحيح وهذا الكتاب له قصة طويلة سنتحدث عنها لاحقا!  موعدا في البحث على مسودة أونسخة ما في رفوف المكتبة (في جامع الخلفاء).
سألنا الشيخ عما جمعناه من أمثال فـأجبنا ما يقارب الثلثمائة، لعل الشيخ قد تطرق لها الشيخ في كتابه! وبين آونة وأخرى نستذكر البعض منها فنضيفها للمجموعة، لكننا نجد حرجا في نشرها علاوة على الخشية من سوء التفسير والغاية. نصحنا الشيخ بالإقدام على هذا الخطوة، وذكرنا بما نسب لكبار الشيوخ من مؤلفات في هذا المضمار ومنهم الشيخ السيوطي والتيفاشي وابن كمال والتوحيدي في الرسالة البغدادية وغيرهم، سيما أنه نفسه تناول هذا الموضوع سابقا.
الذي آلمنا حقا إن عاشق بغداد لم ينل ما يستحقه من مكانة رفعية تتناسب مع ما قدمه من عطاء لحبيبته الغالية بغداد، وهذا مع الأسف ليس بالشيء الجديد في العراق. والذي يعصر الفؤاد ويدميه ما  جاء على لسان أحد الزملاء من أصدقاء الشيخ، فقد ذكر بحسرة وألم " في الرابع من آذار عام 2006 فقدت الثقافة العراقية احد أعلامها المخضرمين المعمرين.  بعد وفاته زارت عائلته قبره بمناسبة أربعينية الحنفي، فوجدت من عبث بقبره وكتب عليه (لا إمام إلا الشافعي). كأني أستذكر قول أبي تمام حبيب بن أوس عن بغداد:
لقد أقــام على بغـــــــــــداد ناعيها ... فليبكها لخرابِ الدهـــــر باكيها
كانت على مائها والحربُ موقدــةٌ ... والنارُ تطفـــأ حسناً في نواحيها
تُرجى لها عودة في الدهر صالحةٌ ... فالآن أضمر منها اليأسَ راجيها
مثل العجوز التي ولّـــــت شبيبتُها ... وبان عنها جمـــالُ كان يُخطيها
وهذا الأمر المقيت جرى أيضا مع قبر المرحوم علي الوردي عالم الإجتماع العراقي في مقبرة جامع براثا.
أهم مؤلفات العلامة الشيخ الحنفي
التشريع الاسلامي، تأريخه وفلسفته 1940. معني القرآن 1941. آيات من سورة النساء 1951. مساجلات مع الشيخ الخالصي 1953.  سنوات في جوار الميتم الإسلامي 1955. الزكاة وفلسفة الإحسان 1955. رسالتان وإطروحة 1955. الفلسفة الصحية في الإسلام 1957. معجم اللغة العامية البغدادية بجزئين 1963 ـ 1966 وطبع الثالث عام 1993 من ما مجموعه 7 أجزاء. لا صلح مع إسرائيل 1965. الروابط الإجتماعية في الإسلام  1956. قصائدي في مدح عبد الكريم قاسم 1960
حديث من وراء المايكرفون 1960. المرأة في القرآن الكريم 1960. الرصافي 1962. الامثال البغدادية بجزئين 1962 ـ 1964. المغنون البغداديون والمقام العراقي 1964. معجم الألفاظ الكويتية 1964. الصناعات والحرف البغدادية 1966. الزواج الدائم 1967 نقد لكتاب زواج المتعة. رمضانيات 1989 مجموعة حلقات عن رمضان. مقدمة في الموسيقى العربية 1989. شخصية. الرسول الأعظم قرآنيا 1997. العروض 1978. ديوان الشعر 1980. زيارة لمباغي بغداد. الامثال البغدادية البذيئة والمبتذلة. عدة كراريس. صحيفة الفتح الموسمية (4 أجزاء). مئات المقالات في مختلف المجالات الأدبية والفنية واللغوية والدينية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

839 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع