حبيب العربنجي
كان يا ما كان... كانت هناك بلاد من البلدان...يمر فيها نهران، نهر الدم ونهر الغم، من شرب من نهر الدم مات بالدم ومن شرب من نهر الغم مات من الغم، ومن شرب من النهرين فقد قتل.
يقولون أنها كانت أرض السواد لسواد بخت ناسها، وقيل لكثرة لافتات النعي فيها، وقيل لسواد قلوب حكامها ومثرة عمائمها، لكن الرواية الاكثر صدقاُ أن هذه التسمية جاءت بعد أن وقف الأسود العظيم البيتنجان وقفة صابرة محتسبة أيام الحصار الذي حاصر حتى البسمة من الشفاه، فكان صحن فطورهم أسود وصحن غدائهم أسود وصحن عشائهم اسود، وكانوا يأكلون قشور الأسود العظيم البيتنجان مع الشاي بدل الكعك. زارها الرحالة ابن فطوطة فقال أنها بلاد ما بين القهرين، قهر الماء وقهر الكهرباء، كما زارها المغامر العظيم إبن فراش الدوشكي فسماها بلاد الراقدين لحب ناسها أن يناموا في أتعس الظروف الحياتية والكهربائية والصيفية والسياسية، بل قيل أن أحد أعضاء فريق نادي الكهف الأسطوري للأرقام القياسية قد خرج سراً من كهفه ليلاً بعد أن نام كلبهم فزار بيته زيارة حميمة، وكانت نتيجة تلك الزيارة الليلية أن الناس في هذه البلاد كلهم من نسل تلك المراة وذلك اللقاء الحميم والعضو الهارب من الكهف.
هناك.. إخترع الناس الكآبة، كانت تلك البلاد أم الكآبة وخاصة الكآبة المسمارية، وهي نوع من الكآبة كأنها مسماير تدق بالچاكوج فوق الرؤوس، هذه الكآبة ومساميرها تجعل أهل هذه البلاد متشجنجين متعصبين وقافلين على الراسين رغم إختلاف المقاهي الذي لعبوا فيها لعبتهم الدومينو ورغم إختلاف اللاعبين، وحين لا حل في القفلة ، كان اللاعبون يتفقون على أن يتراصفوا كقطع الدومينو، بامر من لا أحد أو كل أحد، قطعة قطعة، ثم ينادون على أول شخص غريب يرونه فيأتي ويضرب القطعة الاولى أو الشخص الأول لا فرق، فيتعبعه الآخرون. وهكذا سقطوا تباعاً ولم ينهضوا، مسحورين بلعبة السقوط وغارقين في نشوة السقوط.
خرج من أرضهم دفق أسود كانه دبس تمر، شربوا منه فكان سماً قاتلاً، لكن ذلك الدفق قد جلب كلاب الأرض كلها، لأن أصحاب مزارع الكلاب أكتشفوا أن الكلب يحب أن يمسح خصيانه بذلك السائل اللزج كي يقدر أن يتناسل مع خنزيرة، وللعجب، فان الكلب الذكر في ذاك الزمان كان يحب أن يجامع خنزيرة أكثر مما يحب أن يجامع كلبة، فأصبحت البلاد بلاد عيشة كلاب ترافقها أفواج خنزيرات شبقة، وكانت نتيجة الجماع كلاب مخنزرة، تخنزر على كل شيء يتحرك، تخرج من أفواهها نتانة قذرة، يصاب من تنزل عليه قطرة من تلك النتانة بمرض الذلة، كما أن تلك الكلاب المخنزرة تتجاوب مع من يحكمها، وتصيحه بتسميات مبجلة : الزعيم الاوحد، الرفيق القائد.. دولة الرئيس.. دولة رئيس الوزراء... كولانا...سيدنا شيخنا وحتى حبيبنا وتاج راسنا.
في تلك البلاد، كانت تنزل على الناس ألقاب من السماء، وكانوا ينامون فوق السطوح في الصيف، ونتيجة لتلك العادة البدائية، نزلت عليهم من السماء ألقاب وصافات سماوية وعسكرية ودينية مبجلة، كما كان
لبعضهم ظلال وارفة صلى الناس كثيراً ليديم الله ظلهم الوارف ليجلسوا فيه في أيام الحر وقطع الكهرباء، كما كان لبعضهم أسرار طلسمية مقدسة ذهبت معهم، فكانوا من الذين قدس الله سرهم ، كما كان فيهم من كان بائع ثلج في المساء فصار الفريق الاول الركن في الصباح وهو لا يعلم الفرق بين المسدس والبندقية ويحسب أن البندقية نوع من الحلويات فيه نسبة عالية من البندق، ليس لبرائته بل لجهله في العكسرية، وكان فيهم من لا يتكلم (الضاد) فنام في المساء ليصحو على منصب وزير الأسفار، وإليه ينسب نحت جمع داخ فيه العلماء كثيراً، وهو جمع كلم الدكتاتور ، حتى جاء هذا فقال لهم أن جمع الدكتاتور هو الدكاترة .
أم الشهادات هناك، فكانت توهب هبة ومكرمة وإكراماً وهدايا في مناسباتهم الكثيرة، وكان فيهم من لا يرعف الظاء من الطاء فجاءته هدية كريمة فأصبح وزيراً للتعليم ذي الكعب العالي، كما أن أحدهم قد أضاف كلمة (الريوك ) إلى الأسماء الخمسة وأتى في ذلك بحجة قوية : أحب الريوگ – مبتدأ مرفوع بالواو. أكلتُ الرياگ – مفعول به منصوب بالألف. ولا أحب البيض في الرييگ – إسم مجرور بالياء. فكان هو ممثل تلك البلاد في الغجتماعات الدولية بدرجة دكتوراه في اللغة العربية ، كما أن أحدهم قد إخترع معجون الفصاحة، ملعقة منه كان يجعل الأخرس ينطق بالإنثيالات والماهية والتساوق والتماهي والتشظي في فلك أهليليجي متماوج في اللاوعي الإنخراطي بمساعدة مارد يحتفظ به في القمقم.
هناك أخترعوا الفافون، وجدوا وصفة الفافون وطريقة صنعه في مسلة قديمة غير أنهم كانوا أكثر الناس بعداً عن الفافون، ويكرهونه، بل أن زمناً قد جاءهم فكان فيه الفاون يصنع من المطاط، يكبر ويصغر بحسب طلبات الملك أو الامير او الزعيم أو القائد حتى جاء عصر كان يسمى دولة الفافون، وكان حينذاك طن الفافون بدينار عتيگ لكثرته ورداءة نوعيته.
وشعب تلك البلاد أبدعوا ملحمة تأكل الناس كالمثرمة، فكانت لحومهم التي تخرج من تلك الملحمة منتشرة في مقابر معلومة ومنسية في قبور مجهولة، وفي الطرقات وبطون الاسماك، بل كنت لا تستغرب حين تجد اطفالاً في الشارع وهو يدحرجون رأس قتيل كان في الأمس يلعب معهم، وأستمرت الملحمة في ثرم أهل تلك البلاد، فأصبحت ملحمة خالدة إلى ان أصاب الناس الملل.
في تلك اللحظة الحاسمة من تأريخ أمتهم المجيدة، وتتويجاً لنضال جماهير أحزابهم ، تجمعوا فأخترعوا دولاب الزمن ليطردوا عنهم الملل، دولاب عملاق، صعود فنزول، غير أن الناس في تلك البلاد السحرية حين نزلوا أدمنوا النزول فأستمروا في النزول حتى نزلوا إلى نفق مظلم أكتشفوه في إحدى مغامراتهم في صحراء التيه فتاهوا في النفق وأصروا على أن يجدوا الضوء في نهايته، لأن مشعوذاً قد خدعهم وقال لهم أن في نهاية كل نفق ضوء قوي يجعل الظلام نهاراً، وقيل أن آخرهم حين دخل النفق كان يلبس حزاماً ناسفاً ليغلق باب النفق لكي لا يجد الناس ذلك المدخل السري، فوقف في مدخل النفق واطلق صيحة قال فيها " أريدها بيضة وما تتعب وما تگول لا ولا ترفض نداء " دون أن يعرف الناس ما كان طلبه، ففجر نفسه وأنفجر النفق بمن فيه، فكانت تلك نهاية النفق، وربما نهاية بلاد سمهنا عنها والآن هي بلاد : كان يا ما كان.
914 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع