الشباب والخريف الطويل/للتاريخ والعبرة /ح7
جميلٌ جداً الجلوس قربَ النهر ِوالتطلعُ إلى انسيابية الماءِ وهو يخترقُ الأرضَ وعلى جانبيه البساتين المروية من خلالِ النواعير أو المحركات أو الجداول التي يجتهدُ الفلاحون بشقها لغرضِ أن تروى أراضيهم الزراعية ويعمَ الخيرَ للجميع من خلال ِما تطرحه هذه الأرض المباركة.
ورغم كل معالم الحياة التي يحملها النهر فإنه أيضاً كان الشاهد َعلى ويلات ٍومصاعب كبيرة مرت على أبناءه الصابرين فكان يسمع ُ شكواهم وأنينهم ويحاول أن يخففَ عنهم وطأتها حتى أذا أبتلي العراقيون بالكوارث والمصاعب ِ كان دجلة الخير وفراتنا العذب ينزفان دماً على العراق وأهله الاصلاء .
مع قرب نهاية فصل الصيف الحار جداً ينتظر العراقيون حلول فصل الخريف لكي يحمل لهم نسماتٌ للريح الطيبة تـداعبَ الأشجار َ والأرواح َ والأجسادَ التي تعتقدُ انه أخف وطأة من الشتاء البارد.
لذا يتمنى الكثير من العراقيين استمرار الخريف لأطول مدة ممكنة، وما كان يتبادر إلى ذهنهم أن خريف حياتهم ربما سيستمر طويلاً... وأن ربيعهم لم يحن أوانه بعد ..
في شهر أيلول من عام 1986 م كنتُ أراقبُ حركة َ الطيورِ وأسرابُ الحمامِ وهي تطيرُ على نهرِ دجلة َالخير وأمامي بساتينُ النخيلِ في منظرٍ رائع ٍ جميل حيثُ تتعانق الخضرةَ والماءَ مع صفاء السماء ولونها الأزرق البديع يتخللها قطعُ غيومٍ بيضاءَ تـُسهم في التقليلِ من أشعةِ الشمسِ وقوتها مما يجعل متعة الناظر أكبر وأجمل لهذه المناظر الخلابة ، وبينما تأخذني تأملاتي إلى عوالم شتى أذا بي أصحو على صوتٍ يناديني أن تعال حان موعد الدواء فإذا بي أعود أدراجي منقطعاً عن عالمي الروحي لأحمل جسدي المتعب إلى حيث الردهة الخامسة في مستشفى الرشيد العسكري لأجد أمامي الدكتور إلانسان حسن سهيل نجم يقول مرحباً كيف حالك اليوم قلت الحمد لله أنا بخير بعد نجاح العملية التي أجريتها لي قال أذاً أجلس لنتحدث قليلاً قلت يشرفني ذلك قال أنا أحيك على صبرك وقوة تحملك رغم إنك شاب بعمر أثنين وعشرين عاماً لذا سوف أفاتحك بأمر من المهم أن تعرفه ، وأنا أستمعُ إلى كلماته توقعت شيئاً ما سيحدث ليواصل د حسن حديثه " أبني تنتظرُكَ عمليات جراحية كثيرة لإصلاح ِ مشكلة خطيرة داخل جسمك حيث إن الرصاصة التي أصابتك قد انفجرت فور دخولها جسمك فأصابت مناطق متعددة ومهمة بالجسم فبالإضافة إلى تمزق القالون الذي تم تصحيحه وربطه فإن هناك ناسور شرياني وريدي بين الوريد الأجوف الرئيسي والشريان الابهر الرئيسي بالمنطقة اليمنى من جسدك مع انتشار الشظايا قرب الأمعاء وفي منطقة البطن كما أصيب العصب الأيمن للساق بالضرر لذا علينا العمل سريعاً على حل بعض هذه المشاكل الصحية وسوف أقوم بإخراجك من المستشفى غداً على أن نلتقي بعد يومين لكي نواصل حديثنا وإيجاد حل سليم للمشكلة وتوابعها" .
هنا خرجتُ من صمتي وذهولي من تتابع هذه الإخبار وقسوتها فقلت له دكتور هل أخرجت الرصاصة من جسدي أثناء العملية فقال:
" أبني كنت أجري العملية وأنا أرجو الله أن لا أصيب الشرايين والأوردة بأصابعي لكي لا يحدث نزيف شديد قد يؤدي بحياتك ثم أن الجراح حينما يجري عملية فإنه لا ينشغل بإخراج الرصاصة قدر انشغاله بإصلاح المشاكل التي أحدثتها ثم يرى هل بإلامكان أخراج الرصاصة دون أن تحدث تأثيرا على حياة المريض لذا بني ستبقى هذه الرصاصة في جسدك ".
في البيت تم استقبالي من أهلي وأحبائي وأبناء محلتي بالأحضان والقبلات بعدها بيومين ذهبت إلى عيادة الدكتور حسن سهيل في ساحة النصر ليستقبلني الرجل بكل ترحاب ثم يقوم بإرسالي إلى عيادة الدكتور الرائع صديق الخشاب والذي قام بفحصي مباشرة ليقول لي أبني أريدك غداً تأتي إلى مستشفى أبن النفيس لإمراض القلب والأوعية الدموية لكي ترقد فيه وتحت أشرافي ، هنا ذهلت وقلت للدكتور رجاءً دعني أرتاح من المستشفيات والأدوية قليلاً ، فقام الطبيب بإعطائي السماعة الطبية وقال ضعها على الجانب الأيمن من بطنك وأسمع وقل لي ما تسمع وفعلاً فعلت ما طلبه وإذا بي أسمع صوتاً هادراً كأنه صوت محرك لمكائن وخرير قوي كأنه خرير ماءٍ مندفع ٍ قال سمعت قلت نعم قال هذا الدم داخل جسمك يخرج من الشرايين والأوردة ويختلط بينهما مما يسبب مشاكل جمة لك لذا غداً وليس بعده أراك بالمستشفى .
أصبح الصباح علي وأخوتي يحملوني إلى مستشفى أبن النفيس وهي مستشفى مدني وكنت جريح المعركة الوحيد فيها وبعد تنظيم الأوراق الرسمية للدخول وجدت نفسي في الردهة الثانية الخاصة بالدكتور صديق الخشاب الذي أطل علي مصحوباً بمساعديه د عماد أحمد جمال ود هلال عبد الرحمن وكانوا في غاية اللطف وإلانسانية حيث بدأت معهم مشوار ورحلة عمر طويلة .
وقتها كان هناك تعميم رسمي يُلزم الفتيات الخريجات من الجامعات العراقية بالخدمة في المستشفيات لمدة سنة حتى يصار بعدها إلى تعينهن وحسب تخصصهن وهذه التجربة كانت بسبب تزايد أعداد الجرحى واشتداد المعارك وطول مدة الحرب والنقص الواضح بالكوادر الصحية المساعدة للعمل الطبي .
هناك تعرفت على الفتيات الأربعة اللواتي من واجبهن ومسؤولياتهن رعاية المرضى بالردهة وهن ثلاثة من أخواتنا المسيحيات والأخيرة مسلمة وقد غمرنني بعطفهن ورقة مشاعرهن الكريمة وقد بادلتهم نفس المشاعر الأخوية الصادقة .
كانت لدي هواية لازمتني العمر كله وهي حب قراءة الصحف والمجلات والكتب وكان أخي ناصر رعاه الله وهو لا يزال فتى دون الخامسة عشر عاما( والذي تولى مرافقتي بهذه الرحلة الطويلة خصوصاً وأن أخوتي الآخرين أيضا جنود بالجيش ) يقوم بجلب ما أريده من الصحف اليومية من ساحة الأندلس وكنت أحتفظُ بدفتر كبير أسجل فيه ما يروق لي من القصص والحكم والأمثال ثم أقوم ليلأ بتسجيل ما مر بي في يومي هذا لذا نشأت بيني وبين الأخوات الأربعة هواية تبادل الكتب وفي تلك الفترة قرأت الإنجيل والتوراة بالعهد القديم كما كان الأطباء المقيمين يقومون بالجلوس عندي قترة الاستراحة ويقولون الجلوس عندك أجمل من الذهاب لدار استراحة الأطباء فهنا نجد الصحف والكتب والكرزات والطعام اللذيذ حيث كانت أمي أطال الله بعمرها تقوم بإرسال الطعام اليومي لي من البيت مصحوباً بما أحبه من الحلويات وخصوصاًً ( الشكرلمة وحلاوة الرز البيضاء والمحلبي ) وهكذا سارت الأيام وكانت ردهتنا مثال للنظافة والأجواء اللطيفة وكان الورد وأوراق الياس في كل جانب من أركان هذه الردهة وكنت أحرص على الخروج للحديقة كل صباح لأحصل من الفلاح على حصتي من الورد كما كنت أقوم وبالتنسيق من بقية المرضى بجمع مبلغ من المال نقدمه إلى العاملين لكي يقوموا بتنظيف وغسل الردهة بشكل مستمر .
كان الجميع في المستشفى يترقب متى أجري العملية الخطيرة والمنتظرة ؟ وكان د صديق يحرصُ على الحضور المبكر جداً للردهة حتى قبل عمال الخدمة ويطلع على الحالات المرضية للمرضى ويقول لي لا تستعجل أنت والآخرين على إجراء العملية فلن أجريها إلا بعد أن أقتنع تماماً على أن يكون جدول العمليات مخصص في ذلك اليوم لك وحدك مع إحضار كمية من الدم وأن يكون هناك متطوعين للتبرع بالدم مباشرة إن لزم الأمر .
حانت اللحظة الصعبة حيث تم تحديد يوم 13 / 9 / 1986 لأجراء هذه العملية وتجمع أهلي وأصدقائي عند رأسي وهم يمطرونني بالدعوات والقبلات ِ وهم يدركون خطورة العملية وكان د خوشابا ود منتصر حاضرين مع الطبيب المخدر وتم اصطحابي إلى صالة العمليات لأجد د صديق واقفا مع د عماد ود هلال وبدأ الجميع يمزح معي وبعد أربع ساعات تم إخراجي إلى الردهة ووضعي على السرير حيث أمي وأخواتي وأزواجهن وجمهرة من إلاحبة الكرام ، الكل يحمد الله ويشكره على سلامتي هنا ظهر د صديق الخشاب ليتم إخراج الجميع من الردهة حيث قام بمعاينتي وأعطى تعليماته الطبية وحينما أفقت من المخدر قال لي أبني حمداً لله على سلامتك ولكن يجب أن أجري لك عملية أخرى بعد يومين قلت له د أنا متعب جداً ومنهك ولا أستطيع قال يجب أن أجريها بأسرع وقت لأنك تعاني من نزيف حاد داخل البطن وقد أجريت ربط ( عقد للناسور ) وعلي أن أكمل الأمر بأقرب وقت .
وفعلاً في يوم 15 / 9 / 1986 وصادف الخميس تم فتح صالات العمليات مجدداً لكي ادخل هذه المرة وأنا منهك جداً وتم البدء بإجراء عملية كبرى تطلبت أكثر من خمس ساعات وأكثر من عشرة قناني من الدم لأخرج بعدها إلى غرفة العناية المركزة في الطابق العلوي حيث لم يسمح لأحد ٍ من أهلي بالدخول علي ولكن عند المساء وجدت ُ أخي وصديق عمري الدكتور نازك الفتلاوي وكان وقتها لا يزال طالباً ومعه أخي العزيز عبد الجليل التكريتي وهو مشرف تربوي وأستاذ لمادة اللغة الانكليزية موجودين عند رأسي في غرفة إلانعاش وهنا طلبت منهما أن يسكبا الماء على قدمي لأني أشعر بحرارة شديدة جداً وقد فرح د صديق بهذا الأمر حيث قال هذه علامة على نجاح العملية وصول الدم إلى أصابع قدمك وأستمر صديقي عمري بسكب الماء والسهر على راحتي حتى الصباح ليتم إخراجهما إلى خارج الغرفة وجاءت إحدى المتطوعات من الخريجات وكانت تعمل هناك فقلت لها وبصوت ضعيف ٍ متعب ٍ أرجوك أسكبي الماء على قدمي لأني اشعر بأنها تحترق وهنا صدمت صدمة كبيرة حيث قالت بصوت ٍ مرتفع ٍ ماذا وبالعراقي ( شنو ) هنا لم أتمالك نفسي فبكيت بكاء من شعر بأن كل تضحياته وجهده ذهبت أدارج الرياح هنا جاء كادر العناية المركزة ووجدوني على هذه الحالة ولكني تمالكت نفسي وقلت لها والله لم أبكي لحظة إصابتي ولكنك ألان تشعريني بأن لا قيمة لما قدمناه لأجل العراق ثم أني وطوال الليل كان معي مرافقين للعناية بي وأنتم من أخرجهم دعوهم يدخلون ويقومون بغسل قدمي ، للإماتة فقد قدم الجميع اعتذارهم وبدأت البنت تعتذر فقلت لها أختي أنا ما طلبت هذا الأمر إلا لأني أشعر بحاجتي له وأنت أعتبرك مثل أختي وطلبت منك مساعدتي واعتذاركِ وأن قبلته لكن الحادثة سوف تبقى معي لكي أدرك ما سيأتي بعدها في هذا الخريف الطويل .
هناك في مستشفى أبن النفيس عشت أياماً وشهوراً وأعوام لن تنسى من عذابات وجراحات مصحوبة بآمال عريضة وعلاقات إنسانية كريمة ورائعة سيبقى ذكرها خالداً في ذاكرتي لما أسهمت هذه الفترة المهمة من حياتي في إحداث أثرٍ طيبٍ ومتميزٍ في أسلوبي وتفكيري ونظرتي للمستقبل وهو ما سأحاول المرور عليه في الحلقات القادمة من هذه السلسلة التي ستوثقُ لرحلة أجيالٍ عراقية ٍ أصيلة عاشت في خريف ٍطويل ولكنها سعت إلى ربيع أطول بإذن الله تعالى.
وللحديث بقية أن كان بالعمر بقية بإذن الله تعالى.
1165 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع