د.ضرغام الدباغ
الجزءان التاسع والعشر
9
كان الثلاثة خارجين من قبو القارات الخمس، حيث جو القبو المعبق بالدخان، والحديث بصوت عال، والطاولات المتقاربة في القبو التي كانت تجعل من ارتياده شأناً لا يبعث على المتعة، أو مغامرة لاحتمال الإصابة في كل لحظة بقنينة فارغة يرسلها أحد السكارى، أو ممن ملوا الجلوس في القبو، فيعبر بهذه الطريقة عن سأمه..!.
ورواد القبو مرغمين بطريقة ما على ارتياده، بوصفه يمثل الإمكانية الوحيدة لارتياد قبو ما، بالنظر لأن الأقبية الأخرى في الجوار كانت قد أقفلت أبوابها، ووضعت حراس غلاظ القلوب على البوابات يدققون في هوية القادمين، مستخدمين في ذلك أجهزة ذات تقنية عالية، إذ كانوا قد أرسلوا أنبغ طلابهم لدراستها وأنفقوا الأموال السخية في هذا السبيل.
كان سليم يسير في المقدمة، فيما كان سلام ووسام يحثان الخطى، خلفه ..
في إطار مناقشة الفكرة المجنونة بمنح أشرعتهم للرياح، قرر سليم أن يتابع مجرى نهر سالكوت حتى منابعه الأصلية، بينما كان سلام يفكر إلا لأن ينجو بنفسه من رتابة القبو والاحتمالات التي تقود كلها باتجاه نهايات سيئة، وكان وسام يبحث عن الفصل المفقود في مسرحية شهيرة، يتوقف على فهمه لها معرفة أسرار لعبة الحلقات المقفلة على بعضها.. بأحكام شرقي يشبه السحر ..
هل قلت السحر ..؟
آه .. السحر.. ها نحن في قلب الشرق المسحور منذ الخليقة بالجن والعفاريت، وعرائس البحر وحيوانات ضارية تلتهم قبيلة كاملة من الأسود في لحظات .. !
الشرقي يعشق السحر ويقبل بسطوته سعيداً وبوجود قوة خارقة تفوق قواه المتواضعة فيذعن لمشيئتها التي لا تغلب، والشرقي مطبوع على قبول فكرة الخوارق والخرافات، بل هو لا يقبل أي فكرة أو نظرية لا تقر أو لا تتضمن شيئاً من الخوارق والخرافات، ففي النظريات العقلية تجده مجادلاً شرساً يقارعك الحجة بالرصاص، وإن صفعته بشيء من الخرافات تراه يتمتم في نفسه آيات التبجيل للخرافة.
تطلع سليم بنظرة إلى الخلف، لمح أن سلام ووسام يتهامسان عذوبة الأفق المقبل، والخلاص من الأزمات بأصنافها ..
كان صباح اليوم عندما غادر بيته، قد أشار إلى ما يعني فألاً سيئاً، إذ انقطعت حمالة حقيبة اليد الجلدية التي كان يعتز بها أيما اعتزاز، وهي تحمل كل ذكريات الدراسة الجامعية بمرها وحلوها .. فشعر بغصة في القلب، ولكن الغصات هنا مسألة اعتيادية، وليس للمرء أن يأخذها دائماً على محمل سوء الطالع، ثم أنه وبعد أن أخذ سيارة أجرة تذكر أنه نسي معطفه في مدخل البيت..!
قلنا أن أي شرقي يؤمن بدرجة ما بالقدر ..!
كان سائق سيارة الأجرة مخموراً، يكاد أن لا يتبين طريقه، وعندما وصلت السيارة قرب ميدان الأبطال السبعة، انطلقت رشة من الطلقات من فوق السيارة مباشرة، ويبدو أن فريقان يتبادلان أطلاق النار عبر الساحة، وقد اقتحمت سيارتنا الميدان بتوقيت سيئ الحظ، ولم يشأ سليم أن يحث سائق السيارة على الإسراع، فالأحتمال أن يسمعنا ضعيف، والأضعف أن يلبي الطلب، لأنه كان يحلق في عالمه الخاص، فترك الأمر بضرب من الاستسلام للمقادير..
وفي المحطة الكبيرة التي يختلط الحابل فيها بالنابل، بين مسافرين يرتدون ثياب أنيقة، وسيدات يبدون على عجلة من أمرهن وحمالين يتدافعون، وأولاد يتراكضون في كل مكان، وباعة للمأكولات، وواحدة من اللاتي يبعن الهوى غمزت سليم بنظرة تعني ما تعني ..
كان صوت إطلاق الرصاص يتناهى من قريب وبعيد، ثم كان أحدهم يجلس فاغراً فاه وكأنه قد أثقل في تناول الخمر، أو المواد المخدرة التي كانت رائجة في تلك المنطقة من المدينة التي تعبث فيها عصابات القبائل الشوتية..
ـ لماذا لا تغادر بطريق البحر ..؟
قال الرجل الفاغر فاهه بعبارات متقطعة
ـ أي بحر ..؟
ـ هذا البحر الطويل العريض ألا تراه ..!
أدرك سليم أن من العبث تبادل الحديث مع رجل هو في اللحظة السابقة أو القادمة من الزمن، ولكنه لم يشأ أن يزجر الرجل .. بل أراد أن يجاريه ..
ـ ولكن لا توجد سفينة حالياً في الميناء .. السفينة القادمة ستتأخر كثيراً ..
ـ لا .. قالوا لي أنها ستأتي اليوم ..
ـ وهل أنت بانتظارها ..؟
ـ نعم ...
ـ منذ متى تنتظر ..؟
ـ أنا أنتظر منذ سنين طويلة ..
ـ أليس من الأفضل لك أن تستقل طائرة .. فلربما حالة البحر لا تسمح برسو السفن ..
ـ أنا أكره الطائرات والطيران وكل ما يمت بصله للطيور .
ـ ولماذا ..؟
ـ لأني أحسدها .. فهي لا تحتاج للانتظار سنين طويلة ..
أقبل وسام وقد حصل على تذاكر السفرة ..
القطار يصفر مؤذناً بالرحيل .. والرجل ما يزال ينتظر السفينة في ميناء لم يوجد ..!
في الرحلة إلى أعالي النهر العظيم
أتخذ مكانه في مقعده، وكان راكب قد ترجل وغادر القطار قد نسي بطانية سميكة، أتخذها سليم متكأ له، وهكذا حضي بمقعد وثير طوال الرحلة، وقد أحتاط وسام بتهيأة ثرموس معبأ بالقهوة الساخنة ...
أقلع القطار .. وجهته شمالاً
تناول شيئ من القهوة .. ثم أشعل سيكارة ..
واصل قراءة مجلة الحوادث في يده .. وكان الصفحة الأدبية زاخرة بالأخبار الجديدة، ولكن التشاؤم كان قد بلغ منه مأخذاً، لذلك لم يكن هناك شيئ يحمله على الحماس، أو الفرح أو الحزن .. كان ينقص سليم شيئاً لا يعرفه ليشعر بالتفاؤل ...
وسام كان يمني النفس بإقامة ممتعة في أوربا، يكمل فيها دراسة الهندسة والكهرباء على وجه الدقة، ويغوص عميقاً في الجو الأوربي .. وقعت أبصار سليم على وسام وكأنه قال له: أعرف ما تفكر به .. ابتسما .... كانا صديقان بقدر ما كانا أخوة ..
يكثر القطار من الوقفات، ويصعد قرويون محملين ببعض من منتجاتهم الزراعية والحيوانية، ربما يأخذونها هدايا لأقرباء لهم في المدن، فيختلط الحابل بالنابل يتحدثون بصوت عال، وتفوح شتى الروائح تفضح ما تضمه تلك السلال من أجبان وألبان، وخضرة طازجة، ومخلفات الحيوانات، من ضروق وريش ..
واصل قراءة كتابه بنفس ضجرة، كان يفعل ذلك إزجاء للوقت ليس إلا، فهو يعلم أن الكتب الجادة لا تقرأ إزجاء للوقت، في الطريق سواء بالقطار أو بالطائرة .. وكان سليم مرة قد أمضى ساعات طويلة في رحلة جوية بين موسكو وبيروت عبر يرفان عاصمة أرمينيا، واستغرقت الرحلة أكثر من عشرة ساعات بما في ذلك التوقف، أستطاع أن يكتب مستحقات جادة ..
يكد القطار في سيره بطيئاً، كبغل عجوز يلهث، ولم تكن سرعته تتجاوز ربما السبعين أو الثمانين كيلو متراً في الساعة، ويزفر البخار من أحشاءه، ومنظر القطار وأنت تراه يخترق الحقول، ينطوي على شاعريه بنوع ما، تضرب تلك الذراع الحديدية الهائلة المحركة للدواليب التي تشبه ذراع رجل يضرب صفحة الماء ويسبح بقوة ..
تذكر سفراته وهو صبي لا يكاد يتجاوز الثالثة عشر برفقة والده بالسيارة عبر هذه السهوب الفسيحة، حيث لم تكن الطرق بعد معبدة، وقطع هذه المسافات أمر ينطوي على قدر من المجازفة، تلك كانت رحلات تعرف فيها على الكثير من ظواهر طبيعة البلاد، وأيضاً تصرفات البشر في مختلف الحالات والأوضاع.
كان يشاهد أعداد هائلة مما يشبه البرتقال على جانبي الطريق، فقال لأبوه بدهشة أن سيارة محملة بالبرتقال ربما انقلبت هنا، فضحك والده وأخبره أن هذه ليست سوى ما يعرف بالحنضل، وهي فاكهة قاتلة المرارة وتوصف لتطهير المعدة ...
كان قد سافر مرة مع والده إلى العاصمة وكانوا يسكنون أحدى مدن الشمال، وحلا في فندق يحمل أسم تروكاديرو ولم يكن يعرف قط مالذي يعنيه هذا الأسم الذي يبدو من إيقاعه فرنسياً، ولكنه فيما بعد وفي إحدى سفراته إلى باريس لاحظ وجود محطة مترو تحمل أسم تروكاديرو، تبين له أنها أطلقت على أسم معركة بين الجيش الفرنسي والأسبان في القرن الثامن عشر، أستغرب فما لذي حمل رجلاً من هذه بلادنا أن يطلق هذا الأسم على فندقه في على ضفة النهر الخالد..؟
ومنطقة تروكاديرو الباريسية جميلة بمنظرها البانورامي الذي يطل على نهر السين ثم يمتد أمامك حتى برج إيفل منظر لن يفارق المخيلة بسرعة وهو على الأرجح ما دفع بورجوازي من بلادنا السعيدة للتمتع بليالي باريس في الخمسينات ثم ليطلق اسم تروكاديرو على فندقه في عاصمة البلاد، هذا مع العلم أن مواطنيينا ليسوا من رواد باريس، ولكن الكثير منهم يعرف بالتأكيد حتى أسماء أزقة لندن .. غير فنادقها ومطاعمها وباراتها .. والإنكليزي في عرف مواطنينا آية الدقة والنظام، فيما يرمز للفرنسي الثقافة، واللهو .. وللألمان دائماً بالقوة والمتانة والجدية ودقة الصنعة، سيان إن كانت صناعة، أو موسيقى أو فلسفة.
في سفرته الأولى إلى باريس كان قد دعاه صديق إلى مقهى المولان روج (الطاحونة الحمراء) وارتدت به الذكرى لسنوات، كان أحد أصدقائه ممن درسوا في فرنسا قد غطس في الأعجاب بالثقافة الفرنسية، حمله على الاهتمام بها أيضاً، ومن تلك هذا المقهى الشهير الذي يقدم من على مسرحه الاستعراضي رقصة الكان كان الشهيرة التي كانت بداية خلع الحشمة في الرقص الاستعراضي، ثم في هذا المقهى / الكازينو أيضاً، كان الرسام الفرنسي الشهير لوتريك تولوز يرسم على شراشف الطاولة التي يجلس عليها أجمل الرسوم، لذلك كان عمال المقهى يحرصون على تجديد غطاء الطاولة، ولم يكن تولوز يهتم بها، فقد كان معاقاً (قزماً) ولكنه سليل أسرة ثرية، لذلك كان يجد المال الوفير دوماً بين يديه، الذي ينفقه بسخاء في المقاهي والمطاعم الفاخرة، وعلى العاهرات.
عندما جلس في المولان روج كان يستحضر روحياً تلك الصور والمشاهد.
بمزيج من مصادفات ومقتضيات العمل والدراسة، كانت حياة سليم مليئة بأحداث السفر والفنادق وحمل الحقائب والجري على أرصفة المحطات والمطارات، وأمتلك أذناً تلقط اللهجات وتنوع الموسيقى، وعيناً تطبع في الذاكرة وجوه الجميلات، وسحر الطبيعة، وبراءة الأطفال .....
أما الوجوه الخشبية للسفاحين والآليين فقد تعرف عليها فيما بعد ..
لا تتأمل كثيراً .. الدولاب الدوار
الذي يمتطيه الأطفال فرحون
يدور حول نفسه .. وسرعان ما يعود
المسافرين يعودون..
الدنيا تدور لا تتوقف .. ولكنها تعود
أنت الوحيد من يسافر ولا يعود لي أبدا
أغنية رائعة أعجب بها، سمعها في كازينو البلدية قبل أن يزال باسطنبول من المغنية التركية الشهيرة أجدا بيكان، في أحدى سفرات الشباب المليئة بالاكتشافات والانبهار والصخب أيضاً .. كان يسافر أحياناً بمفرده، وهناك يجد الأصدقاء ويخوض التجارب بطولها وعرضها .. يقضون الأمسيات في حضور الحفلات ... والنهارات في المسابح حيث بوسعك السباحة في بحار استامبول الثلاثة كيليوس على البحر الأسود، وفلوريا على بحر مرمرة وأسكدار على البسفور، تذكر قصيدة تولستوي الصغير (ألكسي)
سبحنا في بحار ثلاثة
وتقلينا في قدور ثلاثة
وانغمسنا في دماء ثلاثة
فنحن بين الطاهرين طهارى
ولكنه كان في عصر فوران العواطف، والأيام مليئة بالأحداث التي تنسيك وجبة تناولتها ربما قبل بضعة ساعات، وذكريات لا تنسى ... لكن دون أن تترك ندبة كبيرة على سطح الذاكرة، هناك ذكريات تحرقك عندما تتذكرها، وبعضها تأسف لما آلت إليه، وأخرى تبتسم عندما تتذكرها ...
كان يعتقد حتى التقى كلوديا ذات يوم في برلين، أن الحب والهوى شيئ يمكن فهمه ووصفه وتفسيره، وحتى استيعابه والسيطرة عليه، هو شيئ غير مادي، ولكن يمكن ترميزه بقيم مادية، ويمكن بالتالي فهمه، وتقيمه، وحياة سليم وإن كانت في قسمها الأعظم جادة، صارمة تحفل بالشعور بالمسؤولية، زاخرة بالإحداث والتقلبات والمفاجئات، والكثير من المخاطرات، لكن دون أن يسمح لنفسه أن تنطوي على تصرفات عابثة، كما كان يعتقد وقد بلغ السادسة والثلاثين، أن قطارات الأحلام والعشق المبرح قد ولت، وما عليه سوى أن يتهيأ لاستقبال المرحلة الجديدة من العمر برصانة وجدية، وكان قد غاص في الدراسة والعلم، فلا شيء يلفت نظره .. أو يشغل فكره، أما قلبه، فأعتقد أن الوعي والقدرة على التنبؤ وقراءة الوجوه والعيون، تفسد مسبقاً ما قد تؤول إليه النظرات الولهانة، وكان فرويد قد عمل عمله في فكره، وأكمل دالي خطوطها الفنية، فلا مجال إذن للعشق، وأن نحب بدون أن نعرف لماذا..؟
كلوديا الساحرة، مدت يدها ومسحت كل الذاكرة، وابتدأت تكتب سجل العشق من جديد ... بدكتاتورية طغيانية، وما زال العجب يسيطر على سليم .. كيف حدث ذلك .. هو نفسه لا يعرف، وجل ما يعرفه أنه صحا ذات يوم فوجد نفسه في غياهب جب عميق ... عميق جداً.. تلفه حبال العشق كالسحر الأسود ..
القطار ما زال يقطع السهوب .. وكتابه مفتوح في يده، وهو يواصل الطوفان بأفكاره وصور كثيرة تترى أمام عينيه وفي الذاكرة تشتعل الذكريات، القطار هو أكثر وسائط النقل درامية، فكل حركة فيه تبعث على رؤية من جانب معين، وجوه المسافرين والمودعين، والمسافات والمدى .... القطارات التي تصفر مؤذنة بالرحيل إلى مدن لم نراها، ونحب نساء لا نستطيع أن نقرر ألوان عيونهن، ونخوض بحار لم نخضها ...
كان قد قال مرة لصديق له، أن الحياة قد أصبحت مملة، فهو كالذي يشاهد مباراة بكرة القدم يعرف نتيجتها سلفاً، والأحداث تبدأ وتنتهي بنتائج معروفة سلفاً تقريباً والتاريخ يعيد نفسه بأسماء، ولكن التشابه في المفردات يا للعنة عجيب لدرجة مذهلة في أغلب الأحيان..
كان وسام وسلام يخططان للمستقبل .. تأمل أنهما في مقتبل شبابهما، ومن حقهما أن يفكران على هذا النحو، أما هو، فقد كان يحاول أن يستعيد الأحلام .....
بلغ القطار محطة مدينة لاتوك، وهي آخر محطة يمكن للقطار أن يبلغها شمالاً، ترجلوا من القطار وسط هرج ومرج وتدافع الصبية وبائعي المأكولات المتجولين، وحمالين يعرضون خدماتهم بإلحاح مزعج شقوا طريقهم عبر هذا الكوكتيل البشري والمشاهد السريعة التعاقب إلى ساحة أمام المحطة، حيث يتسابق سواق سيارات الأجرة على اقتناص المسافرين.
لم يكن سعيداً، بل كان يشعر أن لغماً سينفجر في أي لحظة ... ولكن ضرباً من الاستسلام للمقادير يجتاح كيانه وفكره بشكل لم يسبق له أن عاناه ..
كان عليه أن يمنح كل الانتباه لكل لحظة، فما هي إلا ساعات ويعانق حلمه الأكبر، أن يخرج من مصيدة أطبقت عليه، تلاحقه ثعالب وأباطيل ... ولكن هاتفاً في نفسه يقول أن الحلم هو مشروع مؤجل دائماً، وأن سحابة سوداء ثقيلة تلوح، بل هو يكاد يتنسمها ..
أخذوا سيارة أجرة حيث سيبيتون ليلة واحدة فقط .. بعدها كان صديقه سليمان قد أعد لهم الأدلاء والزحافات وكل ما يحتاج المرء لسفرة ستقطع المستنقعات ..
في اليوم التالي غادروا إلى مدينة أخرى، أكثر تقرباً من المستنقعات والجبال حيث الطبيعة تمنح المأوى للثوار والمهربين والقتلة المأجورين، وحيث يجد أصناف عديدة من الهوام والعاطلين والسفلة، العمل كمخبرين وأدلاء لمن يدفع أكثر، والعملية كلها ببعضها ضرب من ضروب المجازفة مهما بالغت باتخاذ تدابير الحيطة والحذر .. وكان قد سمع قصصاً كثيرة أعتقد أن بعضها ينطوي على المبالغة، أن المهربين يبيعون الناس من عشاق الحرية المهربة، الحالمين أبداً، يبيعونهم للسلطات، أو يحتالون عليهم فينهبون ما يمتلكون من أموال، بل قد تنحدر نفوسهم المنحدرة أصلاً للطمع حتى لساعة المعصم، أو بخاتم ذهبي أو ما شابه .. المهرب شخص يعمل وفق قواعد المال والربح في مهنة وتجارة قوامها البشر ...!
ـ لا ضرورة لإبداء التكتم والحذر ..
هكذا قال صديقهم سليمان، وأستطرد:
ـ الأمر مدروس بعناية، وسوف تسلكون أفضل الطرق التي تخلو عادة من التماسيح العملاقة، وقرود من أكلة لحوم البشر ..
ـ قرود من أكلة لحوم ... هذه المرة الأولى التي اسمع فيها عن قرود تأكل لحوم البشر ..
ـ ثقافتك في هذا المجال ناقصة سليم ..
قال له سليمان وضحك كثيراً ..
كان الراديو يرسل أغنية، مدام تحب تنكر ليه، وهي من أغاني الأربعينات.. لأم كلثوم ..
كان سليم يحب بشكل خاص أن يسمعها
فتح محفظته، لمح صورة كلوديا التي ما برحت مكانها في محفظته وعليها إهداءها العجـيب
" من التي واقعة في هواك .. كلوديا " تأمل ترى هل سيلتقي بها حقاً .. أن الأمر جميل أكثر مما يصدقه المرء ...
لم يكن يستطيع أن يتذكرها دون أن يغطس في لجة من التداعيات، تصفعه الموجات فيلعق ملوحة مياه البحر وهو في الصحراء القاحلة حيث لا ظل إلا لقامتك، يحيط بك سراب، وقد اختفت مدن نعم ومدن لا ... تأمل أن تكون نهاية الأباطيل قريبة، وربما نستقبل المياه النقية وأمطار اللؤلؤ والفيروز .. ولكن الليالي الآتية ستعرف أي ليل يقضيه من يفتح جنباته دون تحفظ للرياح، وما زال يعتقد أن خيراً عميماً بهذا الحجم الخرافي، هو حلم مؤجل.. ثم تأمل أن تكون مصائر الناس وأقدراهم وأحلامهم مرهونة بمزاج فرد أو جماعة ...!
أرتاع للفكرة ..
واليوم تعز عليك بعض الأحيان قطرة من الماء العذب، حتى لتعتقد أن الارتواء من قدح ماء بارد قراح هو محض خرافة ..
في مدينة السلفانية، كان صديقهما كمال بالاستقبال حقاً، بل فعل وسعه ليشعرهم أنهم في أمان وفي رعاية كريمة .. ولكن سليم كان ينتزع الابتسامة انتزاعا ...
من أجل أن يزجوا الوقت، أقترح عليهم سليمان أن يلعبوا ضرب من ألعاب الورق، عارض سليم الاقتراح قائلاً أن الخسارة هي أمر غير محبب والربح كذلك، على قاعدة : سعيد في اللعب تعيس في الدنيا .. ضحكوا .. كسب سليم في تلك الليلة، كأن سوء الطالع لا يريد أن يفارقه ..
ـ لننم الليلة مبكرين، فوراءنا غداً سباق ماراثوني ..
قال لهم سليم .. غفا تحت وطأة شعور بأن الألغام قد أصبحت في أطراف دنياه ..
10
خيل لسليم أنه بينما كان يعود إلى البيت ذات مساء، لم ينتبه إلى فتحة مجاري كبيرة لم يحكم عمال البلدية إغلاقها بالصدفة حتماً، وكثير من الأشياء تدور هنا بالصدفة ... فسار فوقها، عندما شعر أن الظلام يلفه.
في البداية لم يكن الظلام مفاجئة، إذ كان الوقت حوالي منتصف الفجر، إلا أنه شعر في الوهلة الأولى بهواء ساخن، ثم أنتبه إلى أنه لم يعد يرى مصابيح الشارع، ولا قمم الأشجار، أو ضجيج السيارات على أسفلت الشارع، فأستغرب، ترى ماذا حل به ..؟ أراد أن يخرج فلم تطاوعه ذراعية ولا قدميه في الحركة، ... الحفرة إذن ضيقة لا تتيح له حتى أن يرفع يديه، كما لا يبدو أن هناك نفعاً من الصراخ ..
لبرهة أعتقد أنه في حلم ..
أهذا حلم أم ماذا يا ترى ..؟ أم ترى أنه كابوس
ثم أنتبه لوجود أشخاص، فدهش .. إذ تذكر المسلسل التلفزيوني الشهير الحسناء والوحش للممثلة الشهيرة ليندا هاملتون، فأعتقد أنه يشاهد حلقة من ذالك المسلسل الشهير، وأرد أن يحرك يديه فما أستطاع، فترسخ في ذهنه أنه يشاهد كابوساً ثقيلاً .. ثمة أحداث من إحدى روايات فرانتز كافكا .. المليئة بالأسرار والأحلام الثقيلة ..
وأخيراً حدث شيء مذهل، إذ تقدم منه رجل يرتدي ثياباً رسمية ويبدو بهيئة حارس، فأعتقد للوهلة الأولى أنه بشر آلي، وكان ذلك ينسجم مع الحلم فاستطابت له الفكرة، وتكلم هذا بلهجة وكأن جهاز تسجيل في صدره، يتحدث كالرجال الآليون الذين يتحدثون مقاطع تلو المقاطع بطريقة رتيبة، يصدر الأوامر، بصورة ونبرة لا تقبل التسويف والاستفسار..
ـ سليم ... سليم ...
كان وسام يحاول أن يكون صوته هادئاً .. مخففاً لصدمة العين ...
عندما فتح سليم عينيه، شاهداً غوريلا يرتدي الملابس المرقطة، وبيده رشاشة لا تبعد فوهتها عنه سوى سنتمترات معدودة .. إذن أنفجر اللغم، بل قل حقل ألغام بكامله ..
نهض بهدوء تام .. فالصورة على نحو ما كانت ترقد في اللاوعي .. بل كان ينتظرها ...! وفي لحظات أيقن أن حلم الحرية قد غدا بعيد المنال .. وسوف تتناوله أيادٍ وأكف وسوف يوضع في المعصرة، وفي المحلجة ... ويغمس في زيوت ثقيلة، ثم يجفف، ثم يدسونه في محمصة، وأخيراً يعرض لأشعة أكس وغاما، والبنفسجيه وتحت الحمراء ... طقوس حفلة وحشية كما لم تخطر على بال مخلوق من قبل .. طب نفساً يا سليم ... طب نفساً .. سوف تتحرر من قيودك، فأنت كالهواء لا يمكن وضعك في قنينة، تأمل وفكر ... حلق كشواهين الحق في الأعالي .. فكل ما تسمعه من لغط ولغو من حولك ما هي إلا من سخافات الزمن المتعب المتهالك ..
سوف تكون من هذه اللحظة نسختان من سليم، واحدة دسوها في آلة العصر والضخ والتجفيف والطحن وما إلى ذلك من ألعاب المرضى نفسياً، أما سليم الحقيقي فسيبقى حراً، يراقب هذه الملحمة والملاحم المقبلة، حفلة الإهانات ثم يسجل كل شيئ بدقة، وسيكتب ذلك للأجيال القادمة، وليس الهدف توجيه التهم لأحد، ولا إلقاء اللوم على عاتق أحد، فليس هناك من عاتق متين لدرجة يتحمل وزر ما حدث، بل لنرسم لوحة، وليضع كل نفسه في مكان يشاءه ... بالله عليكم أي كرم حاتمي هذا ...!
في زنزانة لا يوجد فيها حتى عود ثقاب، جلس وظهره إلى الحائط، وفكر .. أنهم لم يفتشوهم بعد، أخرج محفظته، وأخرج صورة كلوديا وقد كتبت عليها Deine dich Liebende (من التي واقعة في هواك) أراد أن يمزق الصورة الصغيرة التي أهدتها له كلوديا على عجل في اليوم الأخير... بل ساعات قبل السفر .. لم يكن في واردهما أن يتبادلا الصور، فقد تبادلا الأقدار قبل ثلاث سنوات .. لم يستطع أن يمزق الصورة ...
لم يستطع ... وليس في الأمر مبالغة أو تهويل ..
كان يتوقع أن تنهال عليه أسئلة سخيفة ومحاولات لإهانته والصورة ... هيهات أن يسمح لهم بذلك .. أن تطال ألسنتهم القذرة ذرى عالية .. قبل الصورة، وأعتذر منها بصوت مسموع, حبيبتي كلوديا ... يا حبيبة العمر.. يا من لا تعرفين كم أحبك .. أنا آسف بكل ذرة من كياني، ثم أخرج ... قداحته وأحرق الصورة الصغيرة وبعثر بقاياها ... وتنسم رائحتها ..
أخرجوهم على عجل .. وأركبوهم سيارات تحت الحماية المشددة .. وكأنهم غير مصدقين أنهم اعتقلوا خمسة رجال .. وقعوا في فخ محكم .. كانت أياديهم موثوقة للخلف، وعيونهم مغطاة وفوق كل ذلك، الحراسة المشددة لم تكن تسمح لعصفور أن يفلت من مرمى أبصار وأسلحة الحراس الآليين ...
ترى ماذا على المرء أن يفكر في مثل ظرف كهذا ..؟
الماضي يطل عليك سريعاً ويختفي تحت وقع منظر الهراوات، أما المستقبل فلا يلوح له أفق، ولكن دون ريب يستولى الحاضر عنوة على مشاعرك لأن القيود الحديدية تؤلم معصميك، وتشكل اللفافة السوداء السميكة على عينيك المحكمة الربط بما لا يدعك تعرف إن كنت في السماء السابعة أو أسفل الأرض، سوى هدير الدواليب على أسفلت الطريق، وبعض من همهمات يتبادلها الحراس لا تدل على شيئ .. ربما هم ضجروا من دور الحارس الذي يضع القيود، فمن المؤكد أن أنهم قد شاهدوا أفلاماً في السينما تدل على انحطاط دور من يحرس القيود .. استولت هذه الأفكار على هواجس سليم لبرهة، ثم أقتنع أخيراً، أن لا بد من وجود من يلعب الأدوار القذرة، وإلا كيف يبرز أصحاب الأدوار المضيئة ..
ثم ما لبث أن استولى عليه الحزن مما يفعله هؤلاء الحراس، فبين بلاهة متوارثة، إلى حماقات متوقعة، وطمع وتملق، وجبن يستولى على الفؤاد فيحيل صاحبه إلى كم لا قيمة له من وجود مادي تافه .. وتمنى لو تسنح له الفرصة أن يعيد البناء الذاتي لهؤلاء الشباب الذين انتهى طموحهم في الحياة بأن يصبحوا حراس على القيود الحديدية ...!
كاد أن يصرف النظر، حالياً على الأقل .. عما سيؤول إليه مصيره ورفاق رحلته .. وأن حريته ستكون بعيدة المنال لسنوات طويلة، لا يستطيع أن يتنبأ تحديداً ما سيكون مصيره، لذلك وبضرب من الاستسلام الوحشي للمقادير قرر أن يكيف ذهنه وجسده لهذه المتطلبات، فهم سيصبون جام غضبهم على جسده، أما عقله فبعيد بعيد عن متناول أيديهم، عفواً أقصد عصيهم وسياطهم، بل وأن يضع جزء من اللوم على نفسه، فهو من طرح نفسه شيئاً غير قابل للضرب والقسمة والطرح والجمع، كان يمزح بقوله لأصدقائه ولخبراء التكنولوجيا وراقصي الديسكو، أن دماغه ملكية خاصة غير قابل للتأميم .. ها قد حان وقت تدفع فيه ثمن مغامراتك الايديولوجية والقلمية ..
فتح باب الزنزانة بغتة، وسحبه أحد الرجال الآليون ووضع الأغلال في يديه، ثم أمره بالوقوف وفجأة وجه إليه صفعه صفعة هائلة، وزعق ... هيا ..
هيا إلى أين، لم يكن يعرف، ولكنه شاهد أشخاصا مثله يرتدون بدلات رياضية زرقاء اللون يهرلون إلى نهاية دهليز، فراح يهرول معهم .... عندما عاد دهش لأنه خضع للتدجين بسرعة .. بل أن شخصاً كان إلى جانبه صرح له بهذا الاكتشاف المدوي ..
ـ حسناً ... أنك تأقلمت بسرعة مع الجو ..
بل أنه أكتشف حقيقة سوداء أخرى .. هو أنه سجين أو معتقل بيد هؤلاء الرجال الآليين.
ثم أنه أنتبه لوجود الشخص ما يزال إلى إلى جانبه، فسأله: ترى ماذا سيفعلونه بهم ..؟
ـ إنهم سيعيدون صياغتنا ..
ـ ماذا ..؟
ـ إنهم سيعيدون صياغتنا قلت لك ..
ـ وأنت ما اسمك ..؟
ـ أسمي شخص ...
كان من واضح الأشياء، أن الجو لا يساعد على طرح مزيد من الأسئلة .... فهنا عليك إعادة اكتشاف الكثير من الأشياء بنفسك .. وربما تدفع ثمن التجربة ..! فكر قليلاً، إذا كان الرجال هنا القائمون على فتح الأبواب وغلقها هم رجال آليون، وقد تأكد من ذلك .. بل تيقن منه.. إذن فمن البديهي أن رؤساء هؤلاء أيضاً آليون.. ترى هل أصبح أعداد الآليين ضخماً لهذه الدرجة ..؟
ثم أنه لبرهة أعتقد أن بعض هؤلاء ليسوا آليين، أو ربما لم تكتمل صيرورتهم آليين .. كأن يكونوا في مرحلة التدريب .. أو ربما أنهم تحايلوا على إدارة ومدربي الآليين ... أو هكذا يمكن القول شيئ من هذا وذاك ...
نصحوه: لا تقل أو تكتب تحذيراً من أن الهاوية قريبة، هم لديهم عيوناً بها يبصرون .. أو كما يدعون، لا تقل أن السفينة على وشك الغرق، فتتبرع بإطلاق نداءات .. أيها السادة الانتباه .. نرجوكم أصيخوا السمع ... أياك وهذه الحركات ...!
وقبل أن يختلط الأمر عليه، أكتشف طريقة يمكنه أن يميز بين الآليين وسواهم .. الآليون يجيبونك ذات الإجابة حتى لو غيرت معطيات السؤال، فهو دائماً يجيبك مثلاً: ممنوع ..
ـ يا سيادة الحارس، أريد الخروج لقضاء الحاجة.
ـ ممنوع ....( يجيبك الصوت الآلي)
ـ سيادة الحارس أريد أن أحلم ..
ـ ممنوع
ـ يا سيادة الحارس أريد أن أموت ..
ممنوع
ـ يا سيادة الحارس ... أنا أحبك ..
ـ ممنوع ....
ها ..... الآن اكتشفنا الأمر، إذن فالآلي مبرمج على كلمة ممنوع، لا علاقة له بالفهم ..!
ترى كيف يبرمج الآلي .. سؤال يطرح نفسه ..
ربما هناك فتحة صغيرة خلف شحمة الأذن اليسرى تمثل نقطة الأتصال بالكومبيوتر عبر شريط أتصال في غاية الدقة، يجلس الآلي ويمد الخبير الذي يقف خلفه(قد يكون آلياً هو الآخر) الشريط المغذي من الكومبيوتر ويوصله بالنقطة خلف شحمة الأذن، والمسألة لا تتعدى لمسة زر، وعلى الأرجح أن العملية غير مؤلمة، لأن الآليون لا يشعرون بالألم، فهم صنف راق جداً من المخلوقات، يمثل أعلى ما توصلت له التكنولوجيا، والمخلوقات البشرية تافهة في نظرهم ولا تستحق الاحترام، لأنها تفكر وبعد ذلك تصدر قرارها بصدد أي مسألة .. وهذه دون ريب نقطة ضعف كبيرة ...
ـ ألم تشاهد مثل هذا الجهاز ..؟ سأله الشخص
ـ أي جهاز ..؟
ـ جهاز البرمجة ؟
كانت هذه الاكتشافات مهمة جداً إذ أقتنع بعدها بلا جدوى إثارة المشاعر الإنسانية مع الآلي، إذ لا فائدة أن تتحدث مع صيني باللغة العربية، لغتان مختلفتان بصفة كلية .. من حسنات الحارس الآلي أنه لا يفكر، وأنك بهذه الوسيلة تستطيع أن تحسن وضعك .. كيف ..؟
عليك أن تتوصل إلى أساس البرمجة، فإذا كان قد تلقى البرمجة بلغة معينة، فبوسعك أن تصيغ برنامجاً آخر بلغة أخرى هو لا يفهمها البته .. وهكذا لا يمكن وصف الحارس الآلي بالذكاء، نعم هو يؤدي ما يؤمر به، ولكن بصفة حرفية ..
كان الحراس الآليون يسحبوه وكأنه خرقة بالية .. ثم يعيدوه إلى زنزانته بذات الطريقة .. يتمتعون بقوة عضلية كبيرة، ولكن لا علاقة لهم بالعقل والتفكير .. وبمعايير الآليين أن التفكير عار ...! ولكن سليم كان ما يزال حتى بعد شهور من سقوطه في الحفرة يقاوم الرجال الآليين بصبر، وكان لما يزل مشرق الذهن قادر على تفسير الظواهر، وعلى وضع أسس صياغة برنامجاً مضاداً لبرنامج زرع بذور الغباء والأستخذاء .
ـ سليم ياسين ... تعال
ـ إلى أين رجاء ..
ـ تعال
الرجال الآليون يصدرون الأوامر دون تفسير
ـ أنت الدكتور سليم ياسين ...؟
ـ نعم .. أنا هو ..
ـ عجباً .. وماذا كنت تريد أن تفعل ..؟ قال أحد رؤساء الآليين ...
ـ لا شيئ مهم .. لا شيئ البتة، كنت أريد استكشاف أعالي النهر فحسب .. إنها رحلة بريئة .. أقصد أنها لا تهم أحداً سواي ..!
ـ ولكن نحن يهمنا كل شيئ ... ألا تعرف القوانين ..؟
ـ بالتأكيد .. ولكن ..
ـ ولكن ماذا .. تفسير القانون هو بدرجة أهمية القانون نفسه، ونحن من نقرر أن القصير طويل، والطويل قصير، قانون ... ألم تسمع بالقانون .. ماذا .. ألا تريد أن تعترف بذلك ..؟
القانون ... فكر سليم .. وتذكر مقولة الحكيم الصيني كونفوشيوس: " لا يهمني واضعوا القوانين، بقدر ما يهمني واضعوا الأغاني ...". آه يا سليم .. لنبق في الهم .. القيود الحديدية في يديك والسياط في ظهرك وأنت تحلق في الصين ..! ولكن ماذا في ذلك ..؟ ألم يقولوا لنا أطلب العلم ولو في الصين ...!
كان سليم في مطلع صباه وشبابه قد تولع بالكاتب البريطاني كولن ولسن، وبالأدب الوجودي عامة، ولكن السياسة التي كانت خبز تلك الأيام الساخن الشهي، سحبته إليها في عناق لم يجد منه فكاكاً، وكان زمن اليسار والفكر المادي والاشتراكية الواقعية، وكان كثير من الوجوديين قد اعتنقوا الماركسية، وفي مقدمتهم جان بول سارتر، وكان ألبير كامو أيضاً قريباً من حلقاتهم الثقافية، وحتى جان جاك روسو الذي لا يمكن وصفه بكونه وجودي.. أو ماركسي، ولكنه مع ذلك قال: " كل قانون لم يوافق عليه الشعب يكون باطلاً ".
فكر سليم .. هو لا يريد من أحد شيئاً .. وسوف يحتفظ بصرخاته مكتومة في صدره، ولكني أريد حقي، أو جزء منه .. وإن لم تتفهموا طلبي لجزء من حقي، فالكارثة قادمة .. تذكر صرخة شكسبير في تاجر البندقية: " إن أنكرتم علي حقي، فليصعق الدمار ميثاقكم وحرية مدينتكم ".
ـ دكتور سليم ... هل أنت معنا ..؟
ـ نعم .. نعم .. بالتأكيد .. أنني فقط ..
ـ أنت ماذا ..؟ أنت في مأزق .. وتواجه تهم خطيرة ..
انتهى التحقيق الابتدائي الذي أقتصر على التثبت من الشخصية .. ولكنه لم يخلو من إبداء تصرفات تثبت الجذر الحيواني لبعض هؤلاء المساكين الذين يدفعون لهم ليتخلوا عن آدميتهم، أو تحشى أدمغتهم بأباطيل وخزعبلات وأغاني ورقصات وصراخ ونشيج، وأناشيد تمجد السطوة واحتقار الآخرين، تنهي آخر بقايا احتمالات وضوح الرؤية، والتسامي، في منهجية صار لها مبدعون خبراء يبتكرون إلى كل ما يدفن الإنسان في النفايات، فيستحيل معها أن تأمل خيراً من هذا التهريج .. تهريج كان له خبراءه ومروجيه. كان سليم قد أطلق على هؤلاء بين أصدقاءه، خبراء التكنولوجيا ..
ـ سنرسلكم إلى س101 .. هناك سيتوسعون في التحقيق معكم ..
س 101 ... ما هذا ... لنرى.
أستقبلوهم في س101 بأحتفال وكأنهم كانوا صائمين عن الوحشية ... استقبلوا وكأن الحراس الآليين في امتحان لغرائزهم الحيوانية التي برمجوا عليها، فهذا يطيح بضربة كأنه يريد أثبات درجة وحشيته كان هناك منهم من يقود هؤلاء، أي أن الحراس كانوا يعملون تحت الإشراف، لذلك كانوا يظهرون أقصى درجات المهارة في توجيه الضربات حيث لا تخطر على البال، وتقذف أفواههم بشتائم يتصورون أنهم بها قد يلحقون الألم والإهانة على الأقل، ومنهم من يعتقد بإمكانه أن يهين من هو مقيد لو تلفظ: يا أبن العاهرة .. مثلاً ..
أما سليم فكان مذهولاً ... حقيقة استولى عليه الذهول ...
أترى أننا كنا نعيش وهؤلاء في مجتمع واحد ..؟
أم ربما تناولنا الطعام في مطاعم واحدة ..؟
هل من المعقول أننا نستمع إلى ذات الأغاني .. شيئ عجيب حقاً ..
ونار لو نفخت بها أضاءت ولكنك تنفخ في رماد
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
كان بود سليم أن يجيب على تساؤل لماذا أقدم ورفاق سفرته على هذه المجازفة، إن المجازفة بل المخاطرة تكمن في العيش مع هذه الوحوش الكواسر، التي ما أن يجن الليل، حتى تنبت مخالبها بدل الأظافر، وأنياب قاطعة تنافس أنياب الذئاب والضباع .. أما التلذذ والتمتع بإيذاء الآخرين، فالأمر يصبح بحاجة حقاً إلى علماء في علم النفس .. ليفسروا سر هذه الوحشية، الذئب حيوان وحشي، دون أن يعرف أن هذا عيب، ولكن أن يتلذذ الإنسان بوحشية يستعيرها من الحيوانات، تلكم هي المأساة.
ـ أنت الدكتور سليم ياسين ..؟
ـ نعم أنا هو ..
ـ لقد قرأت لك وأعجبني ما كتبت، لماذا أضعت نفسك هكذا ..
دهش سليم أن يكون مثله قد قرأ له، وأراد أن يقول له أنه كان يبحث عن نفق، عن قبيلة تعيش في عزلة عن البشرية .. أراد أن يقول شيئاً ولم تكن التعابير والكلمات لتخنه، ولكنه شعر أن لا معنى لتجاذب أطراف الحديث من شخص يمسك بأنبوب مطاطي بيده، ليست كعصاة موسى، التي يهش بها على غنمه، بل له فيها مآرب أخرى ..
سكت ... لم ينبت ببنت شفة ..
ـ ها .. ألا تشعر بجدوى الحديث معي ..؟
أدرك سليم أن من يقابله لا يعوزه الذكاء، وتلك قناعة جديدة، ولكن مثله من يؤجر دماغه، كما يؤجر يده .. وربما قلبه .. ولسانه .. تذكر الحديث النبوي الكريم: المسلم من سلم الناس من يده ولسانه ..
أخذوا سليم إلى مختبرات معمل الصياغة الرئيسي حاولوا زرع بذور الغباء، فكان سليم يبعدها، ويزرع مكانها بذوراً أخرى، فيدهش الآليون أيما دهشة .. فيحاولون قلعها، ولكنها كانت تستعصي عليهم القلع، وبعد فترة قصيرة تصبح شجرة يستحيل قلعها ..
تقلب سليم بين مختبرات الآليين، لم يتركوا وسيلة إلا وأتبعوها معه من أجل أن يكون ليناً فيسهل تعليبه، أو تحويل صوته إلى اسطوانة أو قرص مدمج المسمى CD.
ـ أ .. ن .. ت .. لد .. يك .. ر.. أ .. س من .. ح ..د ..ي ..د
قال له حارس آلي بصوته المبرمج المتقطع
ـ ألا تريد أن تجيب بشيئ ...
ـ بماذا أجيب .. لا أعرف ..
ـ لماذا تكتب مسرحيات ..؟
ـ لا أعرف ... أنا أشعر بالحاجة للكتابة، أكتب ... فحسب ..!
ـ والسياسة والاستراتيجية.. ثم ما هذا المقال الأسود الذي كتبته .. النداء الأخير
ـ النداء الأخير قبل غرق السفينة .. أنه مقال لما يكتمل بعد ..
ـ لماذا لم يكتمل ..؟
ـ لم يكن لدي الوقت الكافي .. كنت سأكمله على أية حال ..
ـ ألا تخاف عندما تكتب ..؟
ـ كلا على العكس، يزول خوفي وقلقي وتشاؤمي عندما أكتب .. هذه هي حقيقة مشاعري ..
ـ ألا تفكر بالمتاعب التي تجنيها من مقالات سوداء كهذه ..؟
ـ لست أفكر بالنشر حالاً .. قلت أني أشعر بالراحة .. والاتحاد مع نفسي ..!
ـ ما هذا الجديد .. الاتحاد مع نفسي .. ؟
ـ مع نفسي أنا، هو شعور داخلي يجتاحني، اشعر بالرضا من نفسي .. واحتراماً لذاتي ..
ـ وما هو شعورك الآن ... قالها المحقق الآلي بتهكم ..
ـ شعور عميق بالبراءة من الذنب ..
تذكر مقولة هنريك أبسن .. الشعور بالبراءة هو جذر الشعور بالسعادة .. ولكنه لم يشأ أن يقول الجملة الأخيرة فيستفز الوحش الآلي المدجج بآلة تعذيب .. فقول نصف الحقيقة بطولة وأنت شبه عار ومقيد اليدين إلى الخلف .. تجلس على الأرض .. تواجه محاولات متكررة، عابثةً يحاولون فيها جرح كبريائك .. يحاولون التطاول على جدار عال .. فلا يطالونه .. مطلقاً .. مطلقاً ... فطب نفساً ...
كان الوحش يتحدث، ولكن سليم لم يكن يستمع له، كان غائباً في عالمه الخاص، لا ينتبه إلا إلي مخارج الكلمات، والزعيق ..
ـ صحيح .. صحيح ..
ـ ما هو الصحيح، (زعق الآلي) أنا أقول لك أن شجرة حياتك ستقصف ..
لبرهة أعتقد الوحش أن سليماً يرتعد من الخوف .. وأنه لا يعرف ماذا يقول .. ربما أرتاح غروره الوحشي، ولكن سليماً كان غائباً مع أفكاره .. يتذكر أشياء كثيرة، بعضها صور جميلة، فيبتسم، ابتسامة سرية، فأنت لست في مورد إبداء السعادة .. يتذكر كلوديا .. كيف كانت تقول له: ساليم أنت عنيد ...
يتذكرها الآن بل يكاد يلمس وجهها، لو يقترب قليلاً لربما أستطاع أن يقبلها .. أيتها الحبيبة أين أنت .. خفق فؤاده لذكراها الممتعة ..
هذا الوغد يثرثر، ما زال يلقي علينا خطبة عصماء .. ويهز الأنبوب المطاطي بيده، ولبؤسه يعتقد أنه يخيفنا .. وليس ما يفعله سوى أنه يقطع سلسلة أفكاره وخواطره الحلوة ..
من معصرة لأخرى، ومن مخزن لآخر، ثم تسمين، ثم ترويض، وأخيراً المحكمة، أو هكذا كانوا يطلقون عليها ...
دخل قاعة المحكمة، كان سليم قد مثل مرات عديدة أمام محاكم طوارئ عسكرية، ولكنه أدرك بيقين أن هذه المرة هي أكثرها جدية، وآلة الموت الحادة هنا، شفرة هائلة تروح يميناً وشمالاً فتحصد أروح من تحصد، تتساقط الرؤوس، مشهد لم تراه من قبل في السينما ولا حتى في أفلام بازوليني أو هيتشكوك ... تنظر إلى الوجوه .. وجوه الضحايا والحكام، كل يؤدي دوره، الضحايا يتركون انطباعات لا تنسى، فيما الحكام يمثلون دوراً .. ربما ينطوي على شيئ من الملل والشعور بالوضاعة .. ولو قيض لك وخرجت من هذه التجربة سالماً، وهو أمر ربما نادر الحدوث، فستكتب قصة مكتوبة في محاولة لوضع مرآة ... عاكسة .. أو ربما تخترع مرآة تتحدث ... ولكن هيهات ..
علام يعتمد الأمر .. ؟
أي أمر ..؟
أمر مواجهة أن يتلى عليك قراراً بإنهاء حياتك .. ما لذي يتعين عليك فعله ..؟
ولا أي شيئ .. سوى أن تسعى إلى صنع مزيج من عدم اكتراث، أن تكون نهلستياً في الربع ساعة الأخيرة من العمر، ثم بشيئ من إيمان بالقدر والغيبيات، التي لا تخلو منها أي طبخة شرقية ، وشيئ من بطولة يائسة جرياً على بيت الشعر ...
إن لم يكن للموت من بد فمن العار أن تموت جباناً
تذكر أيضاً كيف مات أصدقاء ورفاق لك، على المشانق وفي ساحات النضال، كانوا فخر جيلنا، كنت أنت تفتخر بهم، ثم تمزج كل ذلك بوقار يتناسب مع طول قامتك، وعرض منكبيك، وأن تقتنع أن حياتك سوف تنتهي كما هي مقدر لها أن تنتهي .. معلقاً بحبل، أو ربما بأنبوب المصل في سرير في مستشفى .. الموت هو الموت أينما كان هو الموت والله وحده يعلم أين .. في أي مستشفى .. وأخيراً الطبخة جاهزة ... تفضل ... كن على قدر أهل العزم ...
حكمت عليك المحكمة بالإعدام شنقاً حتى الموت ..
ثم أراد الحاكم في محاولة فاشلة أن ينتزع منه تنازلاً تحت تلويحة الحبل .. ولكن سليم كان يتجول في أماكن أخرى ... يستمع إلى سمفونيات رائعة، يتذكر بالية البولشوي تياتر في موسكو، صبايا الباليه يكدن أن يطرن طيران الفراشات في الهواء مع نغمات تشايكوفسكي يجسدن أسطورة العشق الساحر بين زيغفريد وأوديت في بحيرة البجع.. يتذكر صوت ثيو آدم في البرلين أنسامبل، ثم تصدح في أذنه بحة حنجرة أديث بياف .. كل باريس تحلم بالحب ... مشاهد تلوح له بوجه كلوديا من بين ضباب أسى شفيف، وهي تبتسم له ... تلك الأبتسامة التي أطارت لبه، التي صرعته، كما سقط زيغفريد في هوى أوديت .... ترى ما وجه المقارنة بين أوديت وكلوديا ...
ـ سليم ... أعتقد إننا انتهينا ..
قال سليمان ملتاعاً ....
ـ لا أدري .. أعتقد ..
لم تكن هذه الإجابة لترضي سليمان .. ولكنه يعرف طباع صديق عمره سليم ... سكت ..
لم يكن أدنى شك أن هذه المسيرة هي بأتجاه الموت، والقاطع الذي أخذوا إليه، كانت تفوح منه روائح الموت .. وكان التوتر يخيم على الجو .. كأنه طائر أسود يحلق فوق الرؤوس .. كان الجلادون يراقبون أدنى حركة من المحكومين .. وبدا ذلك غريباً بنحو ما لسليم .. فلاح له أنهم يخافون المحكومين .. وليس العكس ...
عندما دخل ذلك الممر الذي تصطف الزنزانات على جانبيه، لم يعد هناك شك أن هذه العلب الصغيرة هي المحطة الأخيرة في انتظار الموت .. تكدست الرؤوس فوق بعضها بطريقة مدهشة ترقب بصمت مطبق مشوب بالقلق والعطف على القادمين الجدد .. كانت الرائحة الكريهة تملأ المكان، والرطوبة، فقدر سليم أن العدد كبير، يتجاوز المائة، ثم عرف لاحقاً أن العدد يناهز الثلاثمائة، وزع القادمون على الزنزانات، وضع سليم في الزنزانة رقم 24.
كان عدد الذين يتقاسمون معه الزنزانة والمصير والقليل من ضياء النهار، أحد عشر رجلاً .. في زنزانة لا يزيد طولها على المترين والنصف ومثلها عرضاً ... ولا شيئ البتة .. في انتظار القادم ... يتحدث كل منهم بما يفيض صدره، وكل يعلم أنها ربما تكون الكلمات الأخيرة .. أشبه بالوصايا ...
وفي ظهيرة يومين في الأسبوع، لكن دون أن يعني ذلك أنها قاعدة مقدسة، وعندما يبدأ أحد مساعدي الجلاد بقراءة الأسماء والضجر يطفح على وجهه الكالح ... ولكنه سيقبض ثمن الرؤوس التي سيحصدها، تكون قد دقت ساعة بعض الرجال، ولا صحة للأساطير .. هنا كل شيئ واقعي لدرجة اللعنة ...سر مرفوع الجبين .. إن استطعت، أو تحامل على نفسك .. إن تمكنت ... أستعن بقوة أبطال التاريخ إن تذكرت ... ولكن يجب أن تنهض وتسير على أية حال ... وإذا لم يكن للموت من بد فمن العار أن تموت جباناً ...
بعضهم لا يريد أن يصدق أن اللعبة انتهت، هو وإن لم يباغت، ولكن الحقيقة الصلدة تقع كحجر ثقيل على الرأس .. فبعضهم يدرك ببقايا القدرة على الإدراك والتفكير، إنها ساعة الساعات، وعليه أن لا يدع أعصابه تخونه ... ولكن ... شاهد سليم الكثير من هذه الصور، وسمع أكثر ..
البعض تنتابه ضرب من هيستيريا إبداء الشجاعة ... ولكنه ما أن يرى الحبل اللعين الذي سيلتهم بقية عمرة في دقائق معدودة .. تصبح الخطوات القليلة التي عليه أن يقطعها كرحلة بألاف الأميال، هكذا هي النظرية النسبية، ثم هذا السلم الذي يتعين صعوده، ثم ثلاثة أو أربعة دقائق .. الأخيرة سيكون فيها خارج الوعي، والجسد يرتعش إرتعاشاته الأخيرة .. إذ تغادره آخر ومضات الحياة .. لكن ليس هناك ألم، ليس هناك ندم ... لا شيء في تلك اللحظة سوى طاقة صغيرة سوداء تتقاذفها شهب ملونة وكأنها أحتفالية رأس السنة ...... ثم لا شيئ ..
مواجهة الموت معلقاً بحبل يكسر فقرات العنق، ويقطع الحبل الشوكي ويحبس الهواء، هو ربما أسهل أنواع الموت، ولكنه أكثرها رهبة، ومدعاة للخوف، ولكن دائماً هناك من لا يرى الأمر صعباً لهذه الدرجة، فهو إما أن يكون قد أعد سيناريو تفصيلي لهذا الحدث، أو هو بانتظاره من زمن بعيد، وربما موغل في القدم، أو تهبط سكينة معينة نتيجة وعي عميق للحظة التاريخية، وما يحيط بها، وإخلاص لقيم كان قد آمن بها .. وربما هناك أشياء لا أعرفها ... أو لا يدركها المرء، لتلك الدقائق تفاصيلها السرية، في تلك اللحظات يكون الرجل شيئاً آخر .. يكون قد تحول إلى قيمة معنوية .. من يعلم ماذا يخطر في بال المسافر في تلك اللحظات القصيرة الطويلة ...
في علب الموت، كان هناك من يبكي وداعاً، وكان هناك من يفكر بقلق، وهناك من يمني النفس بحياة أكثر سعادة، وهناك من مسه الجنون ... وهناك أبطال ... ولكن في كل الأحوال هناك ثلاجة السجن ستستقبل الجميع بدرجة واحدة من الترحيب، وإذا تأخر ذوو من ينفذ به الإعدام فسيلاحظون أن الجرذان قد قضمت أجزاء من الجثة، وشاع بين الأشخاص (السجناء) علم النفس الجرذي، حيث لوحظ أن الجرذان تفضل وجنة الميت، وأنفه وشفتاه، ومناطق الوجه عموماً .... وفي ذلك تفسيرات كثيرة ..!
منتظروا الموت .. يحبون ويشتهون الحلويات، ولكم من أين ..؟ تلك أشياء سيقابلها في الحياة الأخرى .. والأمنيات الضائعة، وذكريات ربما بعضها يحملك على الابتسام، تكرر شريط مختصر لأهم مشاهد حياتك ..
أما الأوغاد الذين سلموك لينعموا بليالي هانئة في أحضان عاهرات من الخط الثاني والثالث، ومن فضلات وجبات الأسياد والشخصيات النافذة ... من المخبرين والفاسدين حتى النخاع .. كنت ستوجه لهم صفعة مدوية، ولماذا صفعة، بل درساً في احترام الآخرين، وبأهمية حفظ جدول الضرب ... كقاعدة أولى للفهم ! وسائر القواعد العلمية ..! وأن لا يستصغر أحد شأن أحد، وأن يحترم الناس لكي يحترم .. قواعد هي بديهية ...
لا تحرق أعصابك سدى، ولا تأسفن على شيئ، فقد سقطت في معركة شريفة، في رحلة نحو الحرية، حاولت أن تثبت ذاتك المحترمة، في زمن يعلو فيه صوت خبراء مسح الأحذية، وراقصي الديسكو، وهو ضرب من الرقص والمجون والقفز إلى الأعلى عدة مرات والضرب على الرأس والصدر كالقرود العليا، زمن الرجال الآليين الذين يكتفون بالنزر اليسير من طاقة الشحن، وذلك بوضع خرطوم الطاقة في أدبارهم والضغط على زر "أدفع" وعندما تبدأ أفواههم بالحركة، بدون صوت مسموع، فذلك دليل أنهم أكتفوا من الطاقة .. وينبه ضوء أخضر " أقبض" فيتمتمون همساً بحياء بالغ وأدب ديسكوي ...
ـ شكراً سيدي ..
ـ هيا أمض .. ليأت غيرك
والرجال الآليون يقفون بانتظام دقيق، مع إبداء الطاعة والأدب، وبالطبع الشكر ..
ثم أكتشف سليم أن الرجال الآليين على درجات ... فقد تلقوا جرعات تتفاوت من عازلات التفكير، من أجل إحكام السيطرة على مثيري الشغب، وهي على الأرجح شرائح رقيقة تزرع بعناية بين خلايا الدماغ، دون أن تسبب الألم بتاتاً.
والحق يقال أن مؤسسة تأجير الرجال الآليين لم تكن تفعل ذلك عشوائياً، بل كانت تقبل المتطوعين فقط، وحتى أولئك، يجري انتقاء الأكثر استعداداً لتقبل وظائف الشرائح الإلكترونية في أدمغتهم، ولم يكن يبدو أي تغير على مظهرهم الخارجي، سوى ندبة بسيطة لا تكاد تشاهد بالعين المجردة على طرفي الجمجمة وراء صيوان الأذن، وهي في الأخير ليست عاراً في عرف الخبراء وراقصي الديسكو.
ثم سمع سليم ودهش لما سمع، أن بعض الشباب كانوا يبحثون عن الوساطات للتعين في سلك الرجال الآليين، فقد كان مظهرهم الدقيق، والمسدسات التي تتدلى من خصورهم، يتضاحكون بسفاهة، مرأى يوحي للبعض بالجاذبية، ولكنهم يتحولون إلى آليون بوجوه صارمة فور أن يظهر رجل آلي أعلى مرتبة منهم، حتى وإن لا يرتقي لدرجة الخبراء، الذين كانوا في أعلى هرم المنفذين، ثم يتلوهم راقصو الديسكو، ثم الآليون، وأخيراً ذو الوجوه الخشبية، وهؤلاء هم سقط المتاع .. لا قيمة لهم البتة، وبوسعك أن تجد مثلهم في أي مكب نفايات على قارعة الطريق.
2014 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع