خالد القشطيني
ربما كان الرئيس عبد الناصر أكثر سياسي عربي رويت عنه نوادر وتقليعات وطرائف. أتذكر كيف أصبحت هذه النكات شاغل الناس في الخمسينات والستينات. بيد أنني أود أن أخصص عمود اليوم لوقائع حقيقية مر بها، أو على الأقل رويت على أساس أنها حقيقية، والعهدة على الراوي، علما بأن ليس كل الرواة يفترون على التاريخ مثلما أفتري.
وقد روى الرواة أن الرئيس الراحل كان على علم بهذه النكات، بل وكلف أحد موظفيه بمهمة جمعها وتقديم تقرير عنها يوميًا. وكان على الأغلب يستمع إليها برحابة صدر ويضحك عليها. ربما اعتبرها مؤشرًا لمشاعر الجمهور وأفكارهم. بيد أن نكتة واحدة جرحت مشاعره حقًا، وسببت له اكتئابًا لآونة غير قصيرة. والنكتة هي أن رجلاً اعتاد على الذهاب صباح كل يوم إلى بائع الجرائد يطلب جريدة وينظر نظرة سريعة على صفحتها الأولى ويعيدها إلى البائع.
استغرب بائع الجرائد من هذا الأمر، فخطر له أن يسأل هذا الرجل عما يريده في الجريدة. وفعل ذلك. فأجابه الرجل أنه يبحث عن خبر وفاة أحد الناس. فقال له البائع: أخبار الوفيات موجودة في الصفحة الأخيرة وليس في الأولى. قال له الرجل: نعم، ولكن الرجل الذي أبحث عن خبر وفاته ستكون وفاته في الصفحة الأولى!
لا عجب أن تستولي الكآبة على عبد الناصر عند سماعه هذه النكتة، إذ بعد قليل وجد الرجل مأربه.
ولكن الرئيس ناصر كانت له بدوره لفتاته الساخرة ومناغشاته. يروي أنطوني نتنغ في كتابه عن عبد الناصر شيئًا عن توقيع المعاهدة المصرية البريطانية التي تولى أمرها. يقول إنه أخرج قلمه للتوقيع عليها. ولكن قلمه كان ناشفًا من الحبر. وعبثًا حاول أن يوقع به. وعندئذ تقدم عبد الناصر وأخرج قلمه وناوله إلى الوزير البريطاني. ففعل، ولكنه كما يحدث لأي منا في مثل هذه المناسبات، نسي الأمر ووضع قلم عبد الناصر في جيبه! وفي الحال مد عبد الناصر يده نحوه وقال: لقد أخذتم منا أيها الإنجليز الكثير. هل تريدون أن تأخذوا قلمي أيضًا!
نشأت بينهما بمرور الزمن علاقة ود متبادل وصداقة دائمة. أصبح نتنغ لا يزور الشرق الأوسط دون أن يمر على القاهرة. ولا يزور القاهرة إلا ويمر على ناصر. وفي أحد هذه اللقاءات جرى بينهما حديث طويل في مواضيع حساسة. فجأة قال الرئيس المصري لنتنغ: دعنا نخرج للحديقة ونتنسم الهواء الطلق. خرجا واستمرا في الحديث عن الموضوع.
وكان الجو ملبدًا بالغيوم وبدأ المطر بالانهيار الشديد على غير عادته في مصر. اضطر الاثنان إلى الالتجاء للأشجار والانتقال من زاوية إلى زاوية حتى أصبح الأمر في غاية الغرابة. فلم يتمالك السير أنطوني غير أن يعبر عن استغرابه، فقال: لماذا الوقوف هنا تحت هذا المطر؟ لمَ لا نعود إلى مكتبك ونواصل الكلام هناك؟ فأجابه عبد الناصر: هذا صحيح. ولكن المشكلة هي أن المخابرات تسجل علي كل ما يجري في مكتبي ولا أعرف كيف أوقف مسجلهم!
942 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع