زيد الحلي
في مساء بغدادي جميل ، وفي نشرة أخبار السادسة ، من احد أيام عام 1966 أذيع بيان عسكري، شديد اللهجة بما يشبه النفير العام، بتوقيع عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع ، كانت آنذاك من ضمن فقراته، دعوة كل من تجاوز الثامنة عشرة من العمر ولم يكمل دراسته النظامية الالتحاق فورا بتجانيدهم لغرض السوق...
كانت حرب الشمال في العراق، طاحنة ومعقدة.... فأصيب الناس بالهلع.. فالبيان انف الذكر، كان غير مسبوق في لهجته وسرعته... وامتلأت الشوارع بـجنود الانضباط العسكري (الانضباطية) ولم يعد، غريبا، مشاهدة حافلات الجيش المعروفة بـ (الإيفا) وهي مكتظة بالشباب الذين القيّ القبض عليهم، لأنهم لا يحملون هوية الأحوال المدنية ، او لأن هوياتهم تقرأ كونهم ، تجاوزوا الثامنة عشرة....عاما!
والذين عايشوا الأجواء التي سبقت ذلك البيان ، يدركون بلا شك ، فسحة الحرية الصحفية المتميزة والمشوبة بقلق الولادات، الأدبية الجديدة : شعرا وصحافة وقصة وتشكيلا ومسرحا، لابد يعرفون أن العديد من الصحفيين وأنا منهم كانوا يواصلون دراستهم (بين سطر وأخر) حيث أخذتهم نشوة الكتابة والشهرة وانشغالاتهم في ممارسة مهنتهم المحببة ، فركنوا الى كسل لذيذ جعلهم يؤجلون سنوات الدراسة سنة بعد ثانية..وهكذا.
وبين ذلك الخدر، في المواصلة الدراسية وبين بيان (العقيلي) حدثت هزة في الوسط الصحفي ، كان من نتيجتها أن عدد الزملاء الذين يتوجب عليهم تأدية (الخدمة العسكرية) ضمن سياق ذلك البيان اكثر من ثلاثين صحفيا وهذا يعني أن الصحف ستعاني من نقص كبير في كوادرها، بل ربما تهوي بها الى قاع التوقف ، إذا ما عرفنا إن الصحف آنذاك كانت ، تعتمد في إصدارها على خمسة او ستة صحفيين فقط موزعين على أقسامها.
وحزم الاستاذ عبد العزيز بركات، نقيب الصحفيين ( طيب الله ثراه ) أمره بقلب يملأه الحس المهني وتوجّه الى القصر الجمهوري حاملا الى الرئيس عبد السلام محمد عارف، أسماء الصحفيين الذين شملهم بيان السيد العقيلي .. كان يوما عصيبا، على الصحف ورؤساء تحريرها..
عاد الزميل بركات ومعه قرار رئيس الجمهورية: (يلتحق الصحفيون بمديرية ــ التوجيه المعنوي ــ ويعملون في إذاعة القوات المسلحة ومجلة الجندي )..
وبدلا من النكوص والمنام ، داخل أروقة الصحف ، متوسدين الورق ، خوفا من رجال الانضباط العسكري ، دب النشاط فينا .. وبدأنا بمراجعة دوائر التجنيد وكل منا بيده ( أمر الرئيس ) وسط دهشة، وحسد العاملين في تلك الدوائر.. وخلال أيام كنّا في إذاعة القوات المسلحة ومجلة الجندي .
ومن الصحفيين الذين اختيروا للعمل في مجلة الجندي وفي الإذاعة في آن واحد ، العبد لله ، فيما اختير للعمل في الإذاعة الزملاء : قيس لفته مراد، مظهر عارف، لطفي الخياط ، حسام الساموك، زكي السعدون، أموري الرماحي، خالد الحلي، نعمان سيرت وطاهر الهاشمي ، ثم لحق بهم الفنانون: راسم الجميلي، عمانوئيل رسام، روميو يوسف، فاضل خليل، قائد النعماني، مقداد عبد الرضا، سامي قفطان وسمير القاضي وعبد الجليل علي وكامل جبوري الشهير بشخصية "ام ستوري" والمطربون : داود القيسي وحسين السعدي وجاسم الخياط والشعراء كاظم عبد الجبار وجودت التميمي وكاظم الركابي وغيرهم ..وأسف إن راح القلم ، يسطّر ما تمليه الذاكرة من أسماء ، فيما هناك أسماء أخرى بقيت عصية عليه.
باشرنا العمل ... جنوداً ، بملابس مدنية ، وكان هذا خارجاً عن السياقات المعروفة والصارمة في الجيش العراقي ، غير ان العقلية المتفتحة لمدير " التوجيه المعنوي" وهي الجهة المسؤولة عن الإذاعة والمجلة ، العسكري النابه اللواء " فيصل شرهان العرس " كانت وراء القرار الاستثنائي ..
بعض الزملاء " أستهوتهم " الحالة الجديدة والبعض الأخر "أستثقلها".. وكنت ممن أستهواهم العمل في الفضاء الإذاعي فأحببته ، انه الوجه الثاني للصحافة . بل هو الصحافة المسموعة بعينها ، إن للإذاعة فضاءاتها الفسيحة الممتدة "مجانا"ً الى ملايين المستمعين فيما تمتد اّذرع الصحافة لعشرات الآلاف من القراء الراغبين بشراء هذه الصحيفة او تلك وليس في ما اقوله انتقاصاً من الصحافة الورقية ، التي هي ، هواي ومستقري وكياني ... وكل من عاش تلك الفترة ، يتذكر بالتأكيد برنامج " شارع الصحافة " الذي كانت تقدمه "إذاعة القاهرة " عصر كل يوم ، كان برنامجا يختصر كل ما جاء في الصحف المصرية بربع ساعة فقط بسلاسة وذكاء مهني رائع ... كان وجبة صحفية لذيذة ، كنا على موعد يومي معها ... ففكرت بإعداد برنامج شبيه له لإذاعة القوات المسلحة ... فقدمت طلباً بذلك ، وسرعان ما حصلت الموافقة عليه..
ولأن الشئ بالشئ يذكر ، لابد من القول إن إذاعة بغداد ، كانت تقدم في حينه برنامجا عن الصحافة بعنوان " قالت صحف اليوم " تعده " وكالة الإنباء العراقية " وهو برنامج يعتمد على افتتاحيات "بعض" الصحف الصادرة آنذاك وترسله على شكل وريقات مطبوعة ومسحوبة على "الرونيو" ظهر كل يوم ، ليقرأه المذيع المتواجد في ستوديو الإذاعة في تلك اللحظات على الهواء مباشرة كأي خبر او تعليق ... كان برنامجا رتيباً ، مملاً ، لم تصاحبه الموسيقى او المؤثرات المطلوبة.. إنه باختصار، إسقاط فرض ومجاملة لـ " بعض " أصحاب الصحف .
وتم إعداد البرنامج الجديد المنوع ، المتنوع وقُدم باسم " شريط الصحافة ". ... وبثت الحلقة الأولى منه ، وكانت خالية من افتتاحيات الصحف وقريبة من "المانشيتات" السريعة وأتذكر انني أكثرت من إذاعة ما حفلت به الصحف من الأخبار المنوعة : رياضية ، فنية ، أدبية وعلمية ، وأنهيت الحلقة بإذاعة خبر عن " ام كلثوم " مازجا معه مقطعا من أشهر أغانيها في ذلك الوقت ... كان وقت تقديم البرنامج الساعة الخامسة والنصف مساء ... وما أن أذيعت ، حتى كلمني مدير الإذاعة النقيب " ابراهيم جاسم " فرحاً بالبرنامج ، وهو العسكري الذي كنا " نستنطق " منه البسمة ، دون جدوى !!
واصلت أعداد هذا البرنامج ، وسط ترحيب زملائي الصحفيين في مختلف الصحف ، لأنني حرصت على ذكر أسمائهم في المواضيع التي ينشرونها في البرنامج ، وتلك كانت المرة الأولى التي يسمع فيها الصحفيون أسماءهم عبر المذياع ، مما ساعد على شهرة الكثير منهم حيث تجذًرت تلك الأسماء في ذاكرة المستمعين لعقود من الزمن ... وكان أسمي بينهم .. ألست انا المعد ؟!
كما كلفت في لاحق الأيام بإعداد برامج أخرى مثل برنامج حمل اسم ( بدون عنوان) وكان من أخراج الاخ الصديق " على الأنصاري " قبل ان يتوجه للإخراج التلفازي وهو منوع وكان يذاع كل ليلة ثلاثاء أسبوعياً ثم يعاد الجمعة ... وبرنامج " طبيب الجندي " وهو جديد في فكرته حينها في تلك الفترة ، إذ يعتمد على رسائل المستمعين وخاصة العسكريين ، المتضمنة أسألتهم الصحية التي كان يجيب عليها أطباء أختصاصيون.. وتوسّع البرنامج ، ليشمل عوائل المتصلين من غير العسكريين ، وكنت أستضيف لهذا الغرض ، طبيبات استشاريات في الأمراض النسائية ..
وكل 6 كانون الثاني وانتم بخير
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
2417 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع