أعيادٌ لا تُزيح الهُموم للتاريخ والعبرة ح/6
تجتهدُ العائلات ُ الكريمة َ في تربية ِ أبناءها وبناتها وفق منهج ٍسليم ٍ من القيم ِ الدينية ِ والاجتماعية ِ والأعراف والتقاليد وهم يبغون من وراء ِ ذلك تقويم شخصية الأبناء ِوإعدادهم ِللمستقبل ِ بشكل ايجابي مؤثر في بناءهم الشخصي أو البناء العام للمجتمع مما يضفي على شخصية الأبناء الاتزان والاعتداد بأنفسهم واحترام الآخرين والتخلق بالأخلاق الفاضلة والحميدة يضاف لذلك ما يتلقاه أفراد أي مجتمع من قيم ٍ وسلوكيات مجتمعية أو ما ينفردون به من تجارب شخصية .
هكذا نشئت أجيال متعاقبة من العراقيين الاصلاء وهم يمنون النفس بإلامال العريضة والكبيرة لمستقبل واعد ٍ ... وكل يوم ٍ لهم عيد وأعياد ...
لكن كما يقولون ليس كل ما يتمناه المرءُ يدركه فقد كانت الحروب بالمرصاد لنمضي لها وتمضي بنا إلى مصير مجهول لنا فكان الذي كان. ونواصل سرد الحكاية قبل أن يُمحي الزمان الذاكرة فننسى المكان والأسماء وتواريخ الأيام وتضيع أوراقنا التي هي جزءٌ من أوراق العراق .
لازلنا في صيف عام 1986 م فبعد وصولي إلى مستشفى الكرامة التعليمي في جانب الكرخ بالعاصمة بغداد وجدت نفسي أرقد على سرير أبيض وسط مجموعة كبيرة من الجرحى والكل يتفقد ما بقي من جسده وإلانين يتصاعد من هنا وهناك .
ناديتُ على شخص ٍ جالس ٍ بقربِ جريحٍ فقلت له بصوت واهن ٍ خافت ٍ أخي أرجوك هل تستطيع أن تتصل بأهلي وتخبرهم بأني موجود في المستشفى حيٌ اُرزق وأعطيته رقم هاتف البيت وفعلاً بعد مضي ساعة تقريباً وصلت أمي في حالةٍ ومنظرٍ لا أستطيع نسيانه وهي مسنودة بكتف ويد أخي وأحد أصدقائي وارتمت على سريري تبكي وتصرخ بقلب أمي ملهوفة لا تصدق إن أبنها حيٌ يُرزق حتى هذه اللحظة وأنا أحاول أن أُطمئنها والتفت إلى أخي في محاولة لمساعدتي بالنهوض قليلاً وقلت له تكلم مع أمي فقال دعها فنحن لا نصدق إنك حي حتى هذه اللحظة فقلت له لماذا فقال بان الأخ الذي أتصل قال ( تعالوا أبنكم موجود بالمستشفى ) وهذه العبارة لمن كان يتذكرها من العراقيين لها تفسير أخر يعني بأن أبنكم أستشهد وهو موجود بثلاجة المستشفى لذا كان وضع أهلي لا يختلف من الصراخ والعويل الذي ساد البيوت العراقية وقتها حيث تجمع الجيران والكل يقول بأن أبنهم قد قُتل بالجبهة وسوف يذهبون لاستلام جثمانه .
بعد أن هدأت أمي وهي تقبلني قالت أبني أين أصابتك فقلت لها إنها في بطني وقد أصبتُ إصابة قاتلة ولكن الله سلم .
هنا بدأ مشوار أخر من فصول حياتنا حيث كان أخوتي وأخواتي يزورونني ومعهم الجيران والأصدقاء وتتقدمهم أمي حاملة معها ما لذ وطاب وهي تمني النفس بأن أستطيع أن آكل مثلما كنت ولم نكن نعرف جميعاً حجم إصابتي إلى أن جاء طبيب فسألته عن وضعي الصحي فقال أخي أنت مصاب بطلق ناري مزق القالون وأصاب الأمعاء الغليظة لذا تم إجراء عملية فتح بطن ( كولستمي هارتمن ) أتصور هكذا نطقها فقلت له ماذا يعني قال يعني إنك ستضطر لاستخدام طريقة أخرى في تفريغ الأمعاء وهي عبارة عن كيس بلاستك مثبت على قاعدة بلاستكية ملتصقة في البطن وهنا عرفت ماذا يعني الأمر وحين خرجت إلى البيت كانت أكبرُ مشكلة تواجهني عدم توفر هذه الأكياس بكمية كبيرة فكانت عائلتي تضطر إلى تقديم مبالغ وهدايا للحصول على كمية كافية من هذه الأكياس وكانت أحدى أخواتي وأخوتي يقومون بتنظيف الجرح وربط هذه الأكياس وأصبحت حبيس البيت وأحتاج إلى راحة تامة وكذلك إلى الهواء الطيب في فصل الصيف اللاهب وكان طعامي عبارة عن خضار وسوائل وغيرها وذات يوم زارني صديق فأحبت أمي أن آكل طعاماً مختلفاً فقامت بإعداد قطع لحم مع فواكه وكان فيها البطيخ الأصفر وهو ما أحبه بشكل كبير وما أن تناولت بعض القطع حتى بدأ الألم يعتريني بشكل كبير ولم أستطع النوم في تلك الليلة وتم حملي إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث تم عمل غسل للمعدة وتفريغ إلامعاء ، وأهَلَ عيدُ الأضحى المبارك وأنا بالمستشفى بعد عيد الفطر المبارك الذي أمضيته أيضاً بالمستشفى وعرفت بان أعياد كثيرة سأقضيها على سرير المرض وإنها أعياد ٌ لن تزيح الهموم عني وعن أبناء جيلي والكثير الكثير من العراقيين الذين غابت عنهم البسمة والفرح .
خرجت بعدها إلى البيت وما هي إلا أيام معدودة حتى داهمني نزيفٌ شديد جداً تطلب إعادتي إلى ( مستشفى الرشيد العسكري ) وكانت أمي وأخوتي معي ولكن عنصراً من ألانضباط العسكري واقفاً على البوابة لم يسمح لهم بالدخول وقد توسلت إليه أمي دون جدوى فقد أصم أذنيه عن سماع توسلات أم ترى أبنها كأنه مذبوح غارقاً بدمه ، ويبدو لي بان القسوة قد طبعت قلوب الكثيرين وهم يتصورون بأنهم ينفذون الأوامر العسكرية أو هم يتصورون أنفسهم قابضين على مفاتيح الحل والربط في كافة المواضيع . مع إن الكثير منهم يحتاجون العون والمساعدة ولكنه الخُيلاء َالذي عشش وركب بعض النفوس يوم تصورت إنها تملك كل شيْ والحقيقة إنها لا تملك أي شيء ولكن هكذا صُور للكثيرين وقتها.
عادت أمي دون أن تراني يومها وتم إدخالي إلى الردهة الخامسة جراحة عامة وهي بناية جديدة تقع على نهر دجلة مما جعلها مكاناً مميزاً ، وكان يرأس هذه الردهة العميد الطبيب حسن سهيل نجم ويساعده لفيف من الأطباء والكوادر الصحية وقد اهتموا بي جداً نظراً لخطورة حالتي وكذلك وللأمانة أيضاً للقلب الطيب الذي يحمله د حسن جزاه الله خير الجزاء ، هناك قضيت فترة حرجة جداً حيث كان النزيف مستمر ويتم تعويضه بأكياس من الدم المتبرع به وكان د . حسن يعجب لصبري وقوة تحملي وعدم إثارتي للضجيج في الردهة أسوة بحالات مرضية أخرى .
بعد أن توقف النزيف لفترة من الزمن تم إجراء عملية ثانية لي لغرض إعادة تصليح مشكلة تمزق القولون والأمعاء وإعادتها إلى مكانها الطبيعي ولله الحمد فقد نجحت هذه العملية وبينما أنا تحت التخدير أسمع كلاماً عن حاجتي إلى عمليات أخرى فقلت لهم أي عملية وماذا تقصدون فقالوا لا إننا نتكلم عن هذه العملية ، في محاولة منهم للتخفيف من وطأة الأمر علي .
هنا أتوقف لقول كلمة للقراء الكرام وهي أرجو أن تعذروني عن هذا السرد وثقوا باني ما كتبته إلا لكي أقول من خلاله بأن هناك أخوة لكم من العراقيين قد تغيرت حياتهم بالكامل وهم يرزحون تحت شدة الإمراض والإعاقات المختلفة وكانوا يُمنون النفسَ بان يجدوا لشكواهم وأنينهم صدى يوازي فداحة مصاعبهم وماساتهم وعائلاتهم الكريمة التي عانت الأمرين .
أعتذر مرة أخرى ولكنها الحقيقة الغائبة أو التي ستغيب ملامحها مع مرور الأيام رغم إن شخوصها أحياء ً يرزقون يعانون وهم صامتون وتمضي عليه الأعياد والهموم وجيوشها... بهم يحتفلون.
نعم فقد اختلفت الأعيادُ وبات الأطفالُ يلعبون بحدائق المستشفيات بدلاً عن المتنزهات.
وللحديث بقية أن كان بالعمر بقية بإذن الله تعالى
1183 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع