خالد القشطيني
حقا كما قالوا «إن الدنيا صارت بالمقلوب». كان الأوروبيون يمسكون بمن ينكر وجود الله، أو يشكك بأي من أركان الدين، أو يأتي بأي بدعة أو فكرة علمية؛ فيضربونه ويعذبونه، ثم يعدمونه حرقا على الوتد. بل كانوا يفعلون ذلك حتى بمن يشكون بإيمانه. هكذا فعلوا بجان دارك، وكادوا يفعلون بغاليليو. وأقاموا لهذا الغرض ما يعرف بمحاكم التفتيش التي تدقق في إيمان الشخص، وتتأكد من تقبله لكل ما تقوله الكنيسة.
مر ذلك الزمان، وانقلب الآن إلى عكس ما كان. ويظهر أن الملحدين يسعون اليوم للانتقام والثأر لمن عذبوا وحرقوا. طردوا قبل أيام ممرضة مكلفة بزيارة المرضى المقعدين والمسنين ومَنْ على فراش الموت. اكتشفوا أنها كانت تسأل المريض فيما إذا كان يرغب في أن يسمع منها بعض الصلاة والدعاء إلى الله بالشفاء والمغفرة له. قالوا لها «واجبك أن تداوي المريض بالدواء، لا بالصلاة». ولا عجب.. فالشركات الصيدلانية العملاقة لا تكسب شيئا من الصلاة والدعاء. احتج الملحدون على عملها؛ فطردوها، رغم أنها كانت لا تفرض الدعاء على مرضاها، وإنما تسألهم وتترك لهم حرية الخيار. وفي هذه الأثناء، احتج بعض المؤمنين بالله على إعلان تحمله كل باصات لندن، يقول بالنص «الاحتمال أنه لا يوجد أي رب. فلا تخف من شيء، وتمتع بكل شيء». ولكن إدارة الباصات رفضت الاحتجاج، واعتبرت هذا الإعلان معقولا ومقبولا. وفي جنوب بريطانيا رفضت السلطات التعليمية السماح لإحدى المدارس بتدريس خلق الإنسان مع دروس تطور الإنسان.
أصبح كل شيء بالمقلوب. انطبق ذلك على الشذوذ الجنسي أيضا. كان الشائع أن يقال «إذا ابتليتم؛ فاستتروا»، بل وكان القانون يعاقب مَنْ يمارسون اللواط بالسجن. وهو ما فعلوه بالكاتب الشهير أوسكار وايلد. ولكن الشاذين أصبحوا يتباهون في هذه الأيام بشذوذهم، ويصبون غضبهم واضطهادهم ضد كل من ينتقد اللواط، أو يمتنع عن الاعتراف به. بل رفضت إحدى المعلمات اتباع المنهج الدراسي وتدريس مسرحية شكسبير الشهيرة «روميو وجوليت» لطالباتها، على اعتبار أن المسرحية تشيد بالحب بين فتى وفتاة. اعتبرت ذلك شذوذا ينبغي وقاية الطلاب والطالبات منه.
يساورني شعور الآن بأنه سيأتي يوم يقيمون فيه محاكم تفتيش تحقق مع كل إنسان، وتتأكد من أنه لا يؤمن بالله، ولا يمارس الحب الطبيعي، ولا يعيش مع امرأته بعقد زواج، ولا يربي أطفالا تحدروا من صلبه، يفتشون بيته غرفةً غرفة، تحت السرير، ووراء المدفأة، ليتأكدوا من خلوه من أي كتاب مقدس أو ديني قد يكون الرجل قد أخفاه عن أنظارهم، ثم يأخذونه إلى مكتب التحقيقات ليستجوبوه ويسألوه، هل يؤمن بخلق الإنسان، وبنزول الوحي، ووجود الملائكة، ويوم البعث. ما إنْ تفلت منه كلمة واحدة، كأن يستغفر ربه عَرَضًا، حتى يكبلوه بالسلاسل ويسوقوه إلى ساحة الطرف الأغر. يشدونه إلى عمود نلسن، ويحرقونه عِبْرةً لمن يعتبر.
1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع