توالت في أيامنا هذه الخطوب، وتوالت الأحداث، وكاد الحليم أن يكون حيران، وعليه فهذه إيضاحات لأمثال ذات صبغة أدبية تزيد في تهذيب النفس وإمضاء العقل وتسلية الروح، وقد وجدت ذلك عونا بعد الله على بلاء الأيام وصروف الدهر، وما لا يحسن بثه من الحزن ولا الإخبار عنه من المحن، ومعاذ الله أن يكون ذلك مغنيا عن الالتجاء إلى الله ومناجاته والتوكل عليه والإنابة إليه، لكن دل على ذلك فعل الأخيار قبلنا، فلنا فيهم أسوة، وهذا تفصيل ما قدمت له وأنبأت عنه.
• بيت عاتكة: يضرب مثلا في الموضع الذي تعرض عنه بوجهك وتميل إليه بقلبك، وهو من قول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل ومثل هذا كثير قطعا في حياة الناس، فكم من أمور تحن إليها ولو عرضا قلوب الأحرار، لكن يمنعها التقوى حينا والمروءة أحيانا، والشيب تارة، والحياء أخرى.
• حلة امرئ القيس: يضرب مثلا للشيء الحسن يكون له أثر قبيح، والمبرة يكون في ضمنها عقوق، والكرامة يحصل منها إهلاك.
قالوا: وذلك أن امرأ القيس بن حجر لما خرج إلى قيصر يستعينه على قتلة أبيه، ويستنجده في الاستيلاء على ملكه، أكرمه وأمده بجيش، ثم لما صدر من عنده وشى الوشاة به إليه، وأخبروه بما يكره من شأنه، وخوفوه عاقبة أمره، فندم على تجهيزه، ثم أتبعه بحلة مسمومة عزم عليه أن يلبسها في طريقه، فلما لبسها تقرح جلده، وتساقط لحمه، واشتد سقمه، ففي ذلك يقول:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة وبدلت بالنعماء والخير أبؤسا ولو أن نوما يشترى لاشتريته قليلا كتغميض القطا حيث عرسا فلو أنها نفس تموت صحيحة ولكنها نفس تساقط أنفسا ثم نزل أنقرة ومات بها، وإنما سمي «ذا القروح» لهذه القصة.
وعليه، فينبغي لمن أعطى أن يمضي عطيته ويتمم معروفه، كما أن على كل ذي شأن في قومه وأثر في الناس أن يفطن لكيد الحاسدين وحقد الحاقدين، متوكلا على ربه معتمدا على خالقه، بصيرا بالناس لا يغره منهم ثغر مبتسم.
• رجلا النعامة: يضرب مثلا للاثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر، قال الجاحظ: كل ذي رجلين وكل ذي أربع إذا اندقت إحدى قائمتيه أو إحدى قوائمه ظلع وتحامل، ومشى مشيا، إذا استكره نفسه واحتاج أن يستعين بالصحيحة فعل، إلا النعامة فإنها متى انكسرت إحدى رجليها عمدت إلى السقوط وفقدان الاستعانة بالصحيحة.
وكثير من الأشياء هي كذلك لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر، وهذا ظاهر جدا سواء في بعض الأنظمة السياسية، أو الحياة الأسرية، أو العلاقات الاقتصادية والتجارية، فمن السفه في من كان هذا حاله أن يعمد إلى الآخر فيلغيه، وقد جعل الله قوام كل واحد منهما بالآخر، وإنما اللبيب حقا من لم يدخل أصلا هذه الأنفاق المظلمة والطرائق الوعرة.
1009 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع