محي الدين محمد يونس
الحياة ....حكايات/قانون الخدمة والتقاعد العسكري رقم ١ لسنة ١٩٧٥
في بداية عام 1974 , كانت الحرب في كردستان العراق بين الجيش العراقي والقوات الموالية لها وقوات البيشمركة مستعرة وعلى أشدها وكانت الخسائر في صفوف الجيش العراقي بأعداد ملفتة للنظر حيث كانت جنائز الضباط والجنود القتلى في هذه الحرب تلاحظ يومياً وهي محملة على اسطح سيارات الأجرة الأهلية على الطرق الواصلة بين مدن كردستان ومحافظات العراق في الوسط والجنوب , وكانت مشكلة ظاهرة الجنود الهاربين والمتخلفين من جانبها تشغل أيضاً كاهل السلطة في العراق والتي أقدمت مع قرب انتهاء العام المذكور على تهيئة مسودة مشروع جديد لقانون الخدمة والتقاعد العسكري والذي يتضمن رفع الحد الأعلى لرواتب العسكريين بشكل غير مألوف وبفارق كبير عن رواتب موظفي الدولة العراقية في ذلك الوقت , جوبه مشروع القانون المذكور بالرفض من قبل وزارة المالية باعتباره يشكل عبئاً مالياً ضخماً على ميزانية الدولة العراقية لا تستطيع تحمله
أصرت الحكومة العراقية وأكدت على ضرورة تشريع القانون لمقتضيات المصلحة العامة ومصلحة العراق وسلامة نظامه السياسي وبغية رفع الحالة المعنوية لدى منتسبي وزارة الدفاع في الاستمرار ومواصلة الاشتراك في هذه الحرب الطاحنة التي لا مبرر لها والتي خلفت الكثير من القتلى والجرحى في صفوف الجيش العراقي وقوات البيشمركة والمدنيين العزل , ورملت ويتمت الكثير من النساء والأطفال بالإضافة الى الخسائر الاقتصادية الهائلة ولأجل خلق القناعة لدى مسيري شؤون وزارة المالية اقترحت عليهم تشكيل لجنة موسعه من كبار موظفيها لغرض الانتقال الى شمال العراق ومعايشة القوات العسكرية هناك للوقوف على وضعهم عن كثب وعلى أرض الواقع وما يعانيه الجندي العراقي من تضحيات جسام ومعاناة نفسية واجتماعية .
تم تشكيل اللجنة المطلوبة وانتقلت الى وزارة الدفاع لغرض البدء بأعمالها بعد تهيئة كافة المستلزمات المطلوبة للانتقال الى المكان المحدد بعد التحضير ودراسة الوسيلة والغاية بعد أن كانت الوزارة قد اعدت برنامجاً مدروساً بعناية فائقة من خلال اختيار منطقة تواجد اللجنة وخلق الأجواء التي تجعل أعضائها صاغرين من أجل الموافقة على تشريع القانون المذكور
انتقلت اللجنة الى منطقة خليفان التابعة لقضاء راوندوز بصحبة اللجنة المشكلة من ضباط وزارة الدفاع والمنطقة المذكورة سهلية تحيطها الجبال من كافة الأطراف وهو المنفذ الى مضيق كَلي علي بيك , كانت القطعات العسكرية منتشرة فيها في الخنادق والملاجئ والربايا والاستحكامات الأرضية المختلفة هي السمة البارزة للمنطقة في ذلك الوقت.
خصص لسكن ومبيت اللجنة مكان قريب من مقر آمر اللواء المسؤول عن إدارة الحركات العسكرية في المنطقة والذي كان على علم من غاية ايفاد اللجنة المذكورة لمقره من قبل السلطة المركزية في بغداد استقر رئيس وأعضاء اللجنة في المكان المخصص لهم وكانوا في قمة الشياكة بارتدائهم أفخر الملابس وتفوح منهم رائحة أرقى العطور , ما أن بدأ المذكورين بتناول طعام الغداء ولم تمضي سوى دقائق معدودة حتى بدأت المدفعية والهاونات تطلق نيرانها وطلب من أعضاء اللجنة الاسراع في الانتقال الى الملاجئ والاختباء فيها والتي كانت عبارة عن أخاديد وشقوق أرضية مسقفة بالحديد وأكياس الرمل ويصعب على الإنسان غير العسكري النزول والمكوث فيها , استمر بقاء المذكورين فيها لساعات مع استمرار القصف من داخل المعسكر وباتجاهات مختلفة وفي أوقات متفاوتة هدفها زرع الخوف والرهبة في نفوس أعضاء اللجنة وخلق القناعة لديهم بضرورة الموافقة على اصدار القانون الجديد للخدمة والتقاعد العسكري.
بعد توقف القصف وانقطاع أصوات الانفجارات طلب من أعضاء اللجنة الخروج من الملجأ وخرج بعضهم ورفض البعض الآخر وفضل البقاء داخل الملجأ وما هي إلا دقائق معدودة إلا وعاود القصف مرة أخرى وأسرع الجالسون من أعضاء الوفد خارج الملجأ من تلقاء أنفسهم هذه المرة وهم مسرعين نحو باب الملجأ وملقين بأنفسهم في داخله مما سبب سقوط البعض منهم وإصابة البعض الأخر بجروح أو رضوض من جراء تزاحمهم على باب الملجأ.
في اليوم التالي صباحاً طلب أعضاء اللجنة من مسؤول القوة المرافقة لهم سرعة إعادتهم إلى العاصمة بغداد وإن مشاهدتهم للوضع لا تستلزم البقاء أكثر من هذا الوقت لإبداء رأيهم الصريح عن وضع منتسبي الجيش العراقي ومعاناتهم التي شاهدوها ولمسوها بأنفسهم خلال هذه الفترة القصيرة من تواجدهم هناك وبأنهم قد توصلوا إلى القناعة باستحقاق منتسبي الجيش العراقي ليس للرواتب الجديدة المدرجة في تشريع القانون الجديد للخدمة .... وإنما أكثر من ذلك وتأكيدهم بأنهم سوف لا يمانعون تشريعه فور عودتهم إلى بغداد ( سالمين) وهذا ما تم فعلاً بفعل المقلب الذي أعد لهم من قبل قطعات الجيش العراقي في تلك المنطقة وبتخطيط وإيعاز من القيادات العليا في بغداد وكانت نتائجه صدور قانون الخدمة والتقاعد العسكري رقم 1 لسنة 1975 .
أملي في أنني أكون قد وفقت في سرد هذه الواقعة وأعطيتها ما تستحق من المصداقية وحسب معلوماتي عنها وما يضيفه الإخوان العسكريين من قراء مجلة الكاردينيا عليها من معلومات إضافية استكمالاً للفائدة والتي هي غاية الجميع .
2918 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع