د.نوال السعداوى
فى إسبانيا أشعر أننى فى بيتى مع أهلى، ملامحهم تشبه ملامحنا، لون البشرة القمحية الخمرية، والابتسامة المشرقة، ونبرة الصوت الجذابة للأذن رغم اختلاف اللغة واللهجة،
ربما حدث اختلاط الجينات الاسبانية بالجينات المصرية والعربية والإفريقية، عبر الغزوات العسكرية وعلاقات الحب والصداقة والدم، وتزاوج الأفكار (الميمات) مع (الجينات) ماديا وروحيا، مع إلغاء الفصل بين المادة والروح، والاقتصاد والجنس والثقافة والدين والفلسفة والطب، وربط العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية مدينة برشلونة، عاصمة كاتالونيا، المقاطعة الشرقية لإسبانيا على الشاطئ الغربى للبحر الأببض المتوسط، تتميز بجمال الطبيعة، الجبال والبحر والشجر والزهور، مع الجمال الفكرى والثقافى والأدبى والفنى والمعمارى والسياسى والاجتماعي، نتيجة تأثرها بحضارة مصر العريقة وفلسطين واليونان وبلاد حوض البحر الأبيض المتوسط. منذ عشرين عاما عشت فى برشلونة، بدعوة من الجامعة ، لتدريس مادتى المفضلة «الإبداع والتمرد»، ودعوة أخرى تلقيتها من اتحاد الأدباء الكاتالانى، لأكتب روايتى التى نشرت بدار الهلال بعد عودتى للقاهرة، بعنوان «الرواية» استوحيتها من حياتى فى برشلونة، كنت أعيش فى شقة تطل على البحر، من نافذتى أرى تمثال كولومباس الشاهق الصامد فى وجه الرياح والأمطار، مشيرا بيده الى بلادنا فى الجنوب، رغم أنه أبحر شمالا ليكتشف أمريكا، وقد ظهرت آراء تقول أنه لم يكتشفها ترجم من كتبى للأسبانية والكتالانية أكثر من عشرين كتابا، ومنذ عشر سنوات حصلت على أعلى جائزة أدبية هناك اسمها «بريمى كاتالونيا إنترناسيونال» قدمها لى رئيس كاتالونيا فى حفل كبير ، ألقى فيه خطبة أدبية، إلا أنه كان متأثرا بالقيم الأبوية مثل كل سكان العالم، بمن فيهم الأسبان، وأراد أن يرفع زوجى عنى درجة، حسب الآية «وللرجال عليهن درجة» و«الرجال قوامون على النساء» قال متفاخرا بالرجولة «وراء كل امرأة عظيمة رجل هو منبع الوحى الفكرى لها, ألم يهبط الوحى الإلهى على الأنبياء وكلهم رجال؟ وربما أراد أن يكمل «والنساء ناقصات عقل ودين» لولا أننى نهضت واقفة أعترض على كلامه قائلة: «التاريخ يقول عكس ما تقوله أيها السيد رئيس كاتالونيا»، وكانت عندنا فى مصر «إزيس» إلهة الحكمة وليس زوجها أزوريس، وحواء سبقت زوجها آدم الى شجرة المعرفة ،كما أن منبع الإبداع هو المعرفة والعقل وليس الرجل أو الزوج, ثم جلست فى مقعدي، وسمعت التصفيق يدوى فى القاعة الكبيرة، كان عددهم نحو ألف رجل وامرأة، دعاهم رئيس كاتالونيا للحفل، نهضوا يصفقون وقوفا لبضع دقائق، رأيت وجه الرئيس يتقلص وينسحب منه الدم، وربما أراد أن يسحب منى الجائزة الكبرى لولاالحيا.
يتمتع الشعب الإسباني، رجالا ونساء، بحس إبداعى ثقافى متقدم، رغم القيم الطبقية الذكورية التى لا تزال سائدة، وقد سبقت الحركة الاشتراكية الاسبانية فى نضالها ضد القهر الطبقى وديكتاتورية فرانكو، حتى قامت المظاهرات الشعبية ، قادها المبدعون من أمثال الشاعر لوركا فى غرناطة والجنوب، وسبقت الحركة النسائية المناضلة ضد قهر المرأة، وكان الحزب النسائى السياسى فى إسبانيا، بقيادة المحامية «ليديا فالكون» هو أول الأحزاب السياسية النسائية فى العالم.
تكررت زياراتى مدنا متعددة فى اسبانيا، للمشاركة فى مؤتمرات أدبية وطبية ونسائية، وشاركت فى مظاهرات شعبية، ضد الحرب الأمريكية فى العراق والعدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطيني، وغيرها من الاحتجاجات ضد الاستعمار والصهيونية والرأسمالية الأبوية ومنظمة التجارة العالمية.
كانت الجماهير تسد الشوارع فى برشلونة ومدريد وفالينسيا وغرناطة وقرطبة وغيرها، وكانت الملايين ترقص وتغنى ضد «أزنار وبوش وتونى بلير» وغيرهم من مجرمى الحروب فى العالم.
زيارتى الأخيرة اسبانيا كانت لمدينة «مدريد» خلال هذا الشهر (سبتمبر) ألقيت كلمتى فى مؤتمر النساء الدولى, الذى شاركت فيه أغلب القيادات النسائية فى البلاد العربية، ورئيسات المنظمات المعروفة باسم المجتمع المدني، منها شخصيات جادة مخلصة فى عملها تتبنى قضايا النساء وحقوق الإنسان، ومنها أفراد ومنظمات مرتبطة بالحكومات رغم شعاراتها غير الحكومية، منظمات وأفراد قلائل ليس لهم قواعد شعبية، وليس لهم رؤية تربط قضية النساء (نصف المجتمع) بقضايا المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والأخلاقية، قليل منهم مستقل سياسيا واقتصاديا، أغلبهم يلجأون الى التنازلات من أجل المصالح الآنية، وتفاديا لغضب السلطات الحاكمة داخليا وخارجيا، لهذا لم تلعب هذه المنظمات النسائية ومؤسسات المجتمع المدنى دورا بارزا، فى بلادنا وأغلب بلاد العالم، لتحرير النساء أو فى مجال حقوق الإنسان.
فى كلمتى فى اليوم الأول للمؤتمر تعرضت لعدة نقاط أساسية هى: لماذا لم تتحقق المساواة بين الرجال والنساء رغم الجهود والأموال المبذولة عالميا ومحليا؟ ما العقبات؟ ولماذا تجهض الثورات الشعبية؟ لماذا تحدث الردة فى أغلب بلاد العالم ومنها بلادنا العربية؟ هل يمكن تحقيق المساواة بين الجنسين (وحدها) فى عالم قائم على التفرقة واللامساواة بين الدول والشعوب والطبقات والجنسيات والاجناس والالوان والأديان واللغات والهويات؟
وللحديث بقية.
970 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع