وأقصد به دون شك الرئيس المصري محمد مرسي الذي أصبح ملء سمع الدنيا وبصرها للتوفيق الذي حالفه مؤخرا في إيقاف العدوان الصهيوني على غزة، وقبل ذلك قراره الجريء المفاجئ الذي قضى بتحصين العملية السياسية من التدخل، وإلزام العسكر بالعودة الكريمة الهادئة إلى حيث ينتمون، أي إلى الثكنات، وبأقل ما يمكن من الضجيج والقيل والقال.. موقف يحسب له بالطبع، لكن يبدو أن التوفيق خانه في ثلاث مناسبات لاحقة، كانت آخرها، وربما أخطرها، ما أصدره يوم الخميس الماضي والذي أطلق عليه «الإعلان الدستوري» الذي انقسم حوله الشعب المصري بين مؤيد ومتفهم، وآخر معارض وغاضب أطلق لغضبه العنان دون ضوابط أو قيود إلى حد المطالبة بتغيير النظام!
لن أناقش مدى شرعية قرار الرئيس في إصدار قرارات من هذا العيار، وليس مجال بحثي المفاضلة بين الشرعية الدستورية مقابل الشرعية الثورية، ورغم التحفظات، فإنني ما زلت أعتقد جازما أن الإعلان الدستوري لا يشكل انقلابا على الشرعية كما يصفه البعض، وأسأل: ما الجهة التي تملك شرعية أفضل من شرعية رئيس وصل للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة؟ لماذا سكتت الأطراف المعارضة عندما أصدر الرئيس في أغسطس (آب) الماضي إعلانا أطاح بموجبه بالمجلس العسكري، وألغى الإعلان الدستوري المكمل الذي سبق أن أصدره المجلس المذكور؟ الجواب عن ذلك أن هذه الأطراف اعتبرت تلك القرارات قانونية، وهذا هو رأي العديد من الخبراء القانونيين في ما يتعلق بالإعلان الدستوري الأخير.
لكن المشكلة تكمن في إصدار قرار كهذا بمعزل عن رأي الشركاء، أي أطراف «ثورة 25 يناير (كانون الثاني)»؛ إذ ثبت الآن أن القرار صدر ليس فقط دون التوافق عليه؛ بل حتى دون استشارة أحد، وكأن الموضوع لا يعنيهم، بل وكأن الموضوع شأن داخلي يعني حزب الحرية والعدالة، وهو ليس كذلك.
من البديهي أن يتواصل من هو في سدة الحكم مع شركائه، وإن كانوا خارج الحكم، وإن فضلوا الاصطفاف خلف المعارضة على الأقل لحين تشكيل النظام السياسي البديل، بل يصبح هذا التواصل لا مفر منه في ظل وضع سياسي قلق، حيث لا دستور ولا مجلس شعب؛ بمعنى أن السلطة التشريعية والرقابية الممثلة في المجلس المذكور غائبة، هذا إضافة إلى أن حلفاء الأمس باتوا بمثابة شركاء متشاكسين يتقاذفون باتهامات تصل إلى حد التجريح والتخوين.. دليلا على انعدام الثقة.
وفي ظل وضع كهذا، استغرب كثيرون للطريقة التي اعتمدها الرئيس المصري في إصدار الإعلان الدستوري دون استشارة المؤسسات القضائية رغم أن العلاقة بينها وبين رئاسة الجمهورية ليست على ما يرام وفي الإعلان الكثير مما يعنيها مباشرة، حصل ذلك إلى جانب تهميش حلفائه، وأقصد بهم أطراف «ثورة 25 يناير» في قضايا مصيرية وحساسة تعني الجميع كالتي شملها الإعلان الدستوري. أخشى أن يكون مبعث الذريعة نشوة النصر، وأن الفوز في الانتخابات هو الذي شجع على إصدار القرار دون استشارة من تجب استشارتهم.. وهو اعتقاد خاطئ بالطبع، ذلك لأن طرفي الحكم في الأنظمة الديمقراطية هما الحاكم من جهة؛ والمعارض من جهة أخرى. وفي المسائل الحساسة، يسعى الطرفان؛ الحزب الحاكم والحزب أو الأحزاب المعارضة، ليس فقط للتشاور؛ بل للتوافق في أغلب الأحيان، والخلافات الحادة بينهما تصبح غير ذات صلة عندما يثار الجدل حول قضية وطنية عامة، تتعلق مثلا بالدستور، وبالصلاحيات الرئاسية، وبالسلطات.. أو ما شابه ذلك، وهي حصرا المواضيع التي شملها الإعلان الدستوري محل الخلاف.
لا أحد يستطيع أن يضع نفسه محل الرئيس في تقدير الموقف أو مدى الحاجة للإجراءات والضوابط التي شملها الإعلان؛ إذ ربما كانت الحاجة ماسة فعليا وفي هذا الوقت بالذات، حيث التأخير والتردد ربما كان سيجر على البلاد كوارث سياسية خطيرة، لكن، وعلى افتراض أن هذا التقييم سليم ويعبر تماما عن واقع الحال، السؤال الذي يطرح نفسه فيما إذا كان الخطر محصورا في الحزب الحاكم أم في مجموع الشركاء في العملية السياسية وهو الأرجح.. هذا العامل كان يستدعي لوحده كشف الأسرار وفتح الملفات أمام الشركاء لإطلاعهم على حقيقة التحديات وربما المخاطر التي تواجه الجميع وإن بدرجات متفاوتة، وتشجيعهم على المشاركة الفاعلة في صياغة رزمة من الحلول والإجراءات الضامنة للاستقرار والشرعية، وهي أفضل وسيلة ليست فقط تضمن عدم اعتراض المعارضة؛ بل تشجعها على تأييدها ودعمها، وهو لا شك مطلوب ومن دونه لن يتحقق النجاح.
لا أحد مثلنا في العراق عاش مرارة التهميش والإقصاء، وبالتالي نقدر رد الفعل العنيف من جانب بعض أطراف المعارضة التي تجاوزت في خطابها السياسي ما هو محظور، وتمادت في مطالبها؛ بل وتجاوزت إلغاء الإعلان الدستوري إلى تغيير النظام! بل تجاوزت الخطوط الحمراء التي وضعتها قبل أشهر بنفسها عندما بدأت تتساهل في مسألة الاصطفافات السياسية واستيعاب شخصيات محسوبة على النظام السابق!! هذا التصرف غير مقبول وليس مبررا، وفيه كثير من العواطف المشبوبة والقليل القليل من العقلانية السياسية. في هذا المجال، أعجبني الخطاب الرشيد للسياسي المخضرم أيمن نور زعيم حزب «غد الثورة».. لقد كان واضحا ومنصفا وجريئا عندما قال كلمة الحق وفرق بين ما هو مرغوب وما هو محظور، وحذر من سياسة خلط الأوراق التي يحاول البعض تسويقها دون طائل.
بعد تفجر الأزمة دعا الرئيس مرسي إلى حوار مباشر مع الفرقاء السياسيين.. السؤال: أما كان بالإمكان عقد هذا اللقاء بصيغة حوار تشاوري للتباحث بشأن الإعلان الدستوري قبل إصداره، وبالتالي تفادي انزلاق البلد في أزمات جديدة؟ بالطبع هذا الأمر كان ممكنا. لكن السؤال المحير الذي ما زال بانتظار الإجابة هو: كيف غابت هذه المسألة المركزية عن أذهان السادة المستشارين والنواب والمساعدين لرئيس الجمهورية وفيهم كثير من رجال الفقه والقانون والعلاقات العامة؟ بل كيف تسنى لحزب الحرية والعدالة أن يتجاوز واحدا من الثوابت الشرعية في صناعة القرار؛ وأعني به مبدأ الشورى ويفرض على الناس رؤيته في معالجة ملفات ومسائل مهمة وفي الوقت نفسه هناك شكوك ومخاوف يطلقها البعض وتتناقلها وسائل الإعلام على نطاق واسع تحذر من هيمنة جماعة الإخوان المسلمين على مؤسسات الدولة؟ لاحظوا كيف تعزز موقف هذه الأطراف شعبيا وعربيا بعد الإعلان الدستوري؛ إذ ترك إصدار الإعلان الانطباع بأن هذه المخاوف مبررة؛ خصوصا أن مضمون بعض مواده من شأنها أن تمنح الحصانة لقرارات الرئيس وبأثر رجعي مما يفسح المجال للحديث حول احتمالية عودة الاستبداد، رغم أن كل المؤشرات لا توحي بذلك.
مصر في أزمة.. مع ذلك لا أعتقد أن واحدا من الحلول المقترحة هو تراجع الرئيس عن الإعلان الدستوري، هذا ينبغي أن لا يحصل حفاظا على هيبة الرئاسة وما حققته من مكاسب وطنية على صعيد الاستقرار وبناء نموذج نظام الحكم البديل، لكن في المقابل، عليه أن يتفهم المخاوف ويعمل على إزالة الشكوك بالحوار البناء والهادف والعمل على قاعدة «احترام الرأي والرأي الآخر»، والإسراع بعرض مسودة الدستور الدائم للاستفتاء، وإذا تعذر ذلك لأي سبب من الأسباب، فأنصح بالذهاب للاستفتاء بالتصويت الشعبي المباشر على الإعلان الدستوري والقبول بنتائجه والعمل بموجبها كيفما جاءت سلبا أو إيجابا. لو كنت مكان الرئيس لفعلت ذلك دون تردد.. أما حل الأزمة بالرهان على الاستقطاب السياسي وعروض القوة في ميدان التحرير، فهي سياسة قاصرة وتنطوي على مخاطر جمة، وعلى الرئيس أن يتذكر أنه في الدقيقة التي أدى فيها القسم رئيسا للجمهورية لم يعد زعيم حزب، بل أصبح رئيس دولة وأبا لكل المصريين ويفترض أن يتصرف على هذا الأساس رغم الضغوط التي يتعرض لها إبان الأزمات؛ وهي ليست بقليلة.
وحتى نضمن أن لا يتكرر ما حدث مستقبلا سعيا وراء استقرار العملية السياسية وهو مطلب لا يمكن التساهل بصدده، لا بد من ضوابط متفق عليها يلتزم بها الجميع؛ هي من جانب تقيد المعارضة بإطار اعتراض معقول ومتفق عليه، ومن جانب آخر تلزم الطرف الحاكم بالعمل مع شركائه بروح الفريق. وفي هذا المجال، أنصح أن تبادر قوى «الخامس والعشرين من يناير» بتوقيع مدونة قواعد سلوك يلتزم بموجبها الجميع؛ من هو في الحكم، ومن هو خارجه، بوصفه إجراء وقائيا وحتى يستكمل بناء النموذج السياسي البديل بكل ما ينطوي عليه الأمر من دستور ومؤسسات وثقافة.
العالم العربي ينظر بقلق إلى أوضاع مصر الراهنة، وبإشفاق على العملية السياسية الوليدة والهشة، لكنه يتطلع إلى أن يوفق حكماؤها وعقلاؤها في إيجاد مخرج مناسب وعاجل للأزمة، وهم لا شك قادرون على ذلك.
1172 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع