الوشم في ظاهر القلب / قصة قصيرة

                                                

                 سيف شمس الدين الالوسي / بروكسل

                   

لم يكن العم عباس ذلك الرجل الذي تجاوز عامه الستون يتمتع بصحة جيدة ، فأمراض عدة قد هجمت عليه وفتكت بجسده حتى أضنته، من يراه يقول بأنه قد جاوز عامه السبعون، لكنه في الحقيقة عمره اقل من ذلك بعشر سنين، شعره الأبيض ونظاراته السميكة، وظهره المحني،  فأمراض الضغط والسكري لم تدع له أي حيوية، قد أنهكته وخارت قواه.
كل يوم يذهب إلى محله الصغير الكائن في إحدى أسواق بغداد الشعبية، يضع بضاعته على الرفوف بإتقان، ينظفها، ويزيل عنها الغبار يوميا، يكنس محله ويرش الماء على عتبته صباح كل يوم .
لديه أولاد صغار رغم كبر سنه، لا يستطيع الاعتماد عليهم، لانشغالهم في دراستهم، أما هو فقد كرس حياته لهم، همه الوحيد أن يجدهم في سعادة ولديهم شهادة جامعية .
لا يعود إلى بيته إلا ما بعد الغروب، دائم التفكير، وقليل الكلام، وان سأله احد يجيبه بإجابة مختصرة ومباشرة، علمته الحياة الحكمة والصبر والتروي، تعلم من تجاربه الكثيرة ومن قراءته للكتب، كل يوم يمر عليه بائع الجرائد ليرفده بواحدة من الجرائد التي اعتاد على قراءتها، يقرأ مواضيع تخص السياسة والأدب والتاريخ والاجتماع ، أما مواضيع الرياضة فيتركها هي وعالم الأبراج والفن .
بعدها يشرع بقراءة كتاب، فهو دائم القراءة، ما أن ينتهي من قراءة كتاب حتى يجلب كتابا آخر، يجلس عند باب محله، أمامه منضدة صغيرة، يضع عليها استكان الشاي وجريدة وفي يده كتاب، هنالك بعض الأصدقاء يجلسون معه بين الفينة والأخرى، كلامه معهم يؤنسهم، لأنه لا يتكلم بمواضيع تافهة وغير مجدية، فهو إنسان محايد، يصعب عليك أن تعرف من أي طائفة أو ما هي اتجاهاته الفكرية والسياسية، يستأنسون معه، يشعرهم بالتراث البغدادي الذي هو متمسك به، كيف لا وهم يجلسون على كراسي مصنوعة من سعف النخيل وطاولة هي أيضا مصنوعة من ذلك ويستمعون لمذياع تراثي ألماني (تيليفانكن)، مصنوع في أربعينيات القرن الماضي .
عصاه المصنوعة من خشب التوث لا تفارقه،  يتوكأ عليه، ملمسها ناعم ، تقريبا بنفس طوله، مستقيمة، يمسك بها من وسطها ويتعكز عليها .
عندما تشاهده تعرفه هو في فكر أخر، تأملاته هذه تدل على أن هنالك شيء دائم العيش معه، لا يفارقه، حزنه الهادئ ليس بسبب الظروف الراهنة، بل بسبب آخر لا يمكن لأحد اكتشافه .
في احد الأيام شعر بالتعب من القراءة، وضع كتابه على طاولته فوق الجريدة ودخل في محله ليرتب بضاعته وهو يستمع إلى أغنية أم كلثوم (دارت الأيام)، تلك الأغنية جعلته يتباطأ بعمله، وكأن خدرا قد أصاب يده، بالكاد أستطاع حمل علب الحليب المجفف ليضعها على الرفوف، في تلك اللحظة، جاءه صوتا من خلفه لامرأة دخلت محله لتشتري منه.....
---- السلام عليكم .
ذلك الصوت سمعه كثيرا، لكنه لم يصدق نفسه، عقله الباطني تعرف على ذلك الصوت قبل إدراكه الواعي، أخذه من الوعي إلى اللاوعي ، اختلجت أوصاله ورجف ، سقطت علبة الحليب المجفف، التفت إليها، امرأة في نفس سنه ، بعباءة سوداء، معها طفل ممسك بيدها ويشير إلى بعض الحلوى ويقول لها ....
---- بيبي (جدتي) ، أريد من هاي (هذه) .
أمعن النظر إليها، كأنه يرى خلف تلك التجاعيد التي هجمت على وجهها هي الأخرى وجها لطالما نظر إليه، لطالما لثمه بالقبلات، رق قلبه وارتعش وكأنه هو الأخر سقط مع علبة الحليب مخلفا وراءه سقوطا مدويا، وكأن جسما كبيرا قد سقط من مكان مرتفع .
ارتجفت شفاهه ولم يعد باستطاعته التكلم، سألها بعيونه ماذا تريدين، كأنها هي الأخرى أحست بشيء تجهله، بقيت تنظر إليه، تغور في أعماق تلك العيون المختبئة خلف زجاجات العوينات السميكة، أشارت إلى علبة الحليب المجفف، كلاهما لا يعرفان لماذا هذا الصمت الخجول، مد يده إليها ليناولها ما أرادته وهي الأخرى مدت يدها إليه لتعطيه النقود، كل نظر إلى يد الأخر، شهقا الاثنان، فبكلتا يديهما هنالك نفس الوشم (AA) بحروف انكليزية، يمثل الحرف من كلا اسميهما هو عباس وهي أسماء، سقطت العلبة للمرة الثانية من يده وسقطت نقودها .
اللحظات التي هم بالتقاط علبة الحليب أخذته لسنين وقرون سحيقة، أخذته لحضارات منسية، قد غطت برمال الصحراء، رغم ذلك فهي مازالت موجودة وفي يوم سيأتي من ينقب عليها ويكتشف أطلالها، في تلك اللحظة قد أزيل عن ماضيه وحضارته جميع رمال الصحراء .
تذكر أسماء تلك المرأة المسنة التي تقف أمامه الآن، كانت حبه الأول في الجامعة، تذكر أيام شبابه معها، كيف تعاهدا على البقاء معا ولا احد يمكنه تفرقتهما عن بعض، وشما نفس الوشم في يديهما، تمثل أول حرف من اسميهما، تواعدا على الزواج، تذكر تلك الأوقات الحميمة، تلك القبلات، تلك الضحكات، تذكر يوم تخرجه وافتراقه عنها، لكنه لم يتركها، اضطر بعد عدة لقاءات بعد تخرجهما أن يودعها ويذهب إلى ساحات القتال، في الحرب التي كانت قائمة بين العراق وإيران، تذكر تلك اللحظة التي اسر فيها، ولم يعد إلى وطنه حتى بعد أكثر من عشرين عاما، تذكر كيف ذرف الدموع على حبيبته في لحظة أسره ، كم بكى في ليال حزينة، كان يتخيل هي الآن قد تزوجت ، هي الآن حامل، هي الآن لديها أولادا، لقد صدق حدسه.
لم يعد حتى بعد أن نفق كل شبابه، وعند عودته ذهب إلى منزلها، عرف أنهم قد رحلوا لمكان لا احد يعرف عنوانه فقفل راجعا وليحمل معه خيبات أمله، وليتزوج من امرأة لا ينتمي إليها روحيا ، لم يشعر يوما بأنها زوجته ، وحدها الأوراق من تعطي شريعة زواجه .
أما أسماء هي الأخرى قد ذرفت دموعا عندما همت بالتقاط نقودها، تلك اللحظات القليلة أعادتها إلى حضارتها وأزالت عنها الرمال، تذكرت يوم قرأت في الصحف اسم حبيبها وهو من ضمن الأسرى، تذكرت يوم دخولها للمستشفى بعد أن أعياها الحزن عليه، انتظرته لسنين، لكنه لم يعد، وهل تستطيع الصبر أكثر وهي في مجتمعها الشرقي الذي يحتم عليها الزواج، فزفت لرجل لا تمت إليه بأي ود، لتنجب دزينة من الأبناء، سميت ابنها البكر عباس كاسم حبيبها، ولتكون بعد سنين جدة، لديها الآن أحفادا، لكن حبها لعباس مازال في عنفوان شبابه، مازال صبيا، رغم سنهما الكهل، عرف بأنها ترملت من سواد جلبابها، لم يستطيعا التفوه بكلمة، دموعهما التي كانت تخرج من فوهات بركانية كانت تتحاور،  صمتهما هو الذي كان يتكلم، يتكلم وبصوت عال .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

708 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع