د. علي محمد فخرو
لنمعن النظر في موضوعي الدٍّين الاسلامي والحداثة كمدخلين اساسيين للتجديد الحضاري في دنيا العرب.
أما الدين الاسلامي فهو ليس ديناً فقط وانما أيضاً تاريخ صاعد وهابط عبر القرون الطويلة وثقافة وعادات وسلوك وقيم وفلسفة وعلم كلام وممارسات روحية صوفية وتعبيرات فنية وأدبية ومعمارية. وكل ذلك نتج عن قراءات وتفاسير وفهم للوحي والنصوص الأصلية، بأفهام ومشاعر متباينة ومصالح دنيوية متضاربة.
في ذلك المشهد المترامي الأطراف أُسست مدارس فقهية مذهبية متباينة متصارعة لضبط المشهد، وقامت مدارس كلامية وفلسفية لتحرير المشهد وعقلنته. لقد تميزت تلك المدارس بما لها وما عليها، أما اليوم فنحن أمام مدارس عبثية مجنونة، تحت مسميات من مثل داعش والنصرة وغيرهما، تقوم بصورة منهجية بتدمير كل منجزات ذلك المشهد الدينية والحضارية وغمسه في وحول البربرية التي تغضب الرب وتدنس الانسانية.
أما الحداثة التي كثر وطال اللغط من حولها فانها، بعكس ما يعتقد، حركة في سيرورة وتكوُن، وليست نموذجاً ثابتاً وجاهزاً. فقيم ومبادئ الحداثة المطروحة من قبل أوروبا منذ قرون عدة، من مثل الحرية والمساواة والديموقراطية والفردية الشبه مطلقة والتقدم والعقلانية، والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية التي نتجت عن تطبيق بعض القيم والتي وصلت اليوم الى ذروتها في شكل نيولبرالية رأسمالية عولمية بالغة التوحًش والظلم... هذه القيم والنظم تحتاج الى المراجعة والانضاج والتعديل والضبط الأخلاقي. وهي بالفعل تحت المراجعة حتى من قبل من أسسوها ونشروا أفكارها وتطبيقاتها.
هنا نصل الى النقطة المفصلية. فاذا كان العرب جادين في محاولتهم، التي بدأت منذ قرنين في شكل مشاريع نهضوية متعثرة، كما بينا في مقال الأسبوع الماضي، اذا كانوا جادين في محاولة التحديث وبناء حداثتهم الذاتية، غير المتصارعة مع حداثات الآخرين، بل مكملة لها ومحسنة لبعض جوانبها، فان تلك المحاولة ستفشل ان لم تصاحبها، يداً بيد، محاولة جادة عميقة لتحليل ونقد وتجاوز وتحديث كل ذلك الارث الثقافي، بما فيه الفقهي كله «دون استثناء المدرسة» والفكري والتطبيق في الواقع عبر القرون، الذي بُني وتراكم وتشوه حول النص الاسلامي الأصلي.
لسنا هنا معنيين بما سيؤخذ أو يعدل أو يترك من الارث الثقافي الفقهي الاسلامي أو من الارث الحداثي، ولكننا معنيون الى أبعد الحدود بمن سيقوم بالمهمة الأولى وتحت أي مظلة ستتم المهمة، لأنها المهمة الأصعب والأكثر استثارة لغضب فقهاء السلاطين وفقهاء المصالح.
هناك دلائل بأن من بدأ بالفعل بالقيام بهذه المهمة هم أصحاب المدرسة الكلامية الجديدة الذين يحاولون الانتقال بعلم الكلام الاسلامي الذي بدأه المعتزلة في القرنين الثاني والثالث الهجري الى علم كلام اسلامي في حديث يستخدم مناهج وأدوات علوم المعرفة الحديثة ولغتها التفكيكية والتحليلية. انه علم لا يهتم فقط بقضايا من مثل صفات الله وخلق القرءان أو أزليته، كما فعل المتكلمون القدامى.
لكنهم، وبقوة وعمق، معنيون بقضايا المجتمع المدني وفاعليته، بحقوق الانسان في عصره الحديث، يربط الانسان المسلم بالوحي الالهي من خلال العقل والتجارب الروحية العميقة، بالتأمل الديني المتجدٍّد، باستنباط مواقف من فنون العصر وممارساته الاقتصادية وتطوراته الطبية والبيولوجية والنفسية.
وهم لايترددون في الاستفادة من الفكر الفلسفي الحديث ونظريات أقطابه ومن منجزات العلوم الاجتماعية اللسانية والفلكية من أجل ربط الدين بمتطلبات العصر الحديث ومن أجل الفكاك من أسر المعرفة الفقهية التي تجمدت عبر العصور. هؤلاء يمثلون مجموعة من المفكرين العرب والمسلمين المبدعين يمتدُ تواجدهم من الهند شرقاً حتى المغرب العربي غرباً من أمثال طه عبدالرحمن ومحمد حسين فضل الله وحسن جابر في بلاد العرب وعبدالكريم سروش والمرحوم علي شريعتي في ايران، وغيرهم كثيرون ويزدادون عدداً وتأثيراً.
أفراد هذه المدرسة الكلامية الجديدة، المنفتحة على علوم العصر وأدواته، المهمومة باصلاح الثقافة الفقهية الاسلامية، يهيئون لمصالحة تاريخية بين الوحي الالهي الحق من جهة وبين المفيد الكثير من أفكار وأنظمة الحداثة، التي هي الأخرى تقودها كوكبة مبهرة من المفكرين العرب والمسلمين.
لن يبقى بحر العرب الاسلامي آسناً راكداً بعد الآن وذلك بالرغم من العفن والجنون الذي يبشر به الجهاديون التكفيريون.
910 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع