قال ربنا - جل ذكره - في سورة الأنعام: ((وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه))، واسم الإشارة ((وتلك)) يعود على ما سبق تلاوته من آيات قبل هذه الآية الكريمة، قال ربنا: ((وحاجه قومه....)) الآيات، قال البقاعي: «((وتلك))، أي:
وهذه الحجة العظيمة الشأن التي تلوناها عليكم، وهي ما حاج إبراهيم عليه السلام به قومه، وعظمه بتعظيمها، فقال: ((حجتنا))، (أي التي يحق لها بما فيها من الجلالة أن تضاف إلينا، لأنها من أشرف النعم وأجل العطايا)... اهـ».
يتحرر من هذا أن إقامة التوحيد في الأرض والدعوة إليه وحماية جانبه، أعظم المطالب وأجل المقاصد وأنه تبع لذلك، فإن من علو المقام وجليل الإنعام أن يؤتى الإنسان حجة من الله لإثبات هذا الأمر مع كمال ظهوره أصلا.
والعالم الذي نعيشه، ندرك تماما أنه وإن كان قوامه العتاد والاقتصاد، إلا أنهما مسخران لخدمة الآيديولوجيات المختلفة بشتى طرائقها ومشاربها، لا ينازع في إثبات هذا أحد يعقل ما يقول، وإن سميت حينا اسم المصالح، فكلها تسقى بماء واحد.
لكن العتاد والاقتصاد ليسا أمضى سلاحا من قوة الحجة وبيانها، لأن الحرب قد تزيل عدوا، لكنها قلما تبني أنصارا.
ونحن - معشر المسلمين - من ضروريات اليقينيات الكبرى التي نؤمن بها، أن الإسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله دينا غيره، ومع ذلك لا نرى غضاضة من التنزل في الخطاب أحيانا لإيضاح المحجة وإظهار الحجة على المخالف، كما في التنزيل المبارك في الحديث عن أبي الأنبياء عليه السلام: ((فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر))، وما كان خليل الله عليه السلام مشركا يوما من الدهر ولا طرفة عين.
وإن من العجز بمكان أن يبصر الإنسان الحق ثم يكون عاجزا عن إثباته، فضلا عن الدعوة إليه وحماية حرماته، وحري – في ما يغلب على ظننا أنه رأي صالح - بعلماء المسلمين شهود منتديات الحوار ومواطن المقارعة العلمية، فلئن كان الجهاد بالسيف ذروة سنام الإسلام، إلا أن رفع رايته لا يتأتى في كل حين، خوفا من مفاسد أشد وأنكى تبعا لحالة أهل الإسلام، فإن الجهاد بالحجة قائم في كل آن، منذ أن بعث الله نوحا والأنبياء بعده عليهم الصلاة والسلام، وهو باق إلى قيام الساعة.
وذلكم الفتى، العالم المدني، الذي يكون في آخر الزمان يقارع المسيح الدجال بالحجة، لا يجد الدجال بدا من قتله، مع أن الشاب لم يخرج لقتاله، قال عليه الصلاة والسلام مخبرا عنه وواصفا إياه: (ذلكم أعظم الناس شهادة عند رب العالمين).
وليس المقصود بالمحاجة السباب اللاذع واللعن المتعاقب، إنما المقصود رد الشبهات وإقامة الدلائل الواضحات وإظهار دين الله بالبراهين النيرات، فيعجب المخالف من أدبك مع وضوح طريقتك، ومن خفض صوتك مع علو حجتك، فيجد نفسه من غير أن يشعر ينطق ببطلان دعوته ((ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون)).
1173 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع