الدولة الريعية.. والديموقراطية

                                                  

                               د. علي محمد فخرو

تحتاج دول الثروة البترولية والغازية العربية، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، إلى طرح السؤال التالي: هل انها كدول ريعية، يعتمد دخلها المالي بصورة شبه كاملة على ما تبيعه من البترول والغاز إلى الخارج، ستكون قادرة في المستقبل على المواءمة بين اقتصادها الريعي وعقليتها الريعية وبين ضرورة انتقالها إلى نظام ديموقراطي، دون تعديلات جوهرية في كلً مكونات ذلك النظام الريعي؟

هذا موضوع بالغ الأهمية ويحتاج إلى أن يناقش باستفاضة، خصوصاً بعد أن طرحت ثورات وحراكات الربيع العربي موضوع الديموقراطية بقوًة على جميع المجتمعات العربية، الغنية منها والفقيرة. وهذا الموضوع وبقية الشعارات التي طرحتها الملايين في ساحات المدن العربية سيبقون معنا لعقود طويلة.
لنذكر أنفسنا بأن دول البترول والغاز العربية تعتبر كدول ريعية لأن اقتصادها ريعي يقوم على بيع مادة وهبتها الطبيعة، مادة البترول، إلى الخارج، ثم تتسلم الدولة ثمن ذلك الريع وتتصرف بتوزيع وإنفاق جزء منه حسب ما تراه.
إذن فنحن أمام اقتصاد لا يقوم من خلال الجهد والإبداع والمخاطرة، الأمر الذي يقود إلى بناء مجتمع وبشر بعقلية ريعية قوامها: جهد قليل ودخل كبير. وهذا بدوره يولد مشاعر الاسترخاء في المجتمع وعدم رغبة المواطنين في الانخراط في الحياة السياسية وفي القيام بأي واجبات تحتاج إلى جهد وتعب.
فاذا أضيف إلى ذلك أن الدولة، المتسلمة لعائدات الريع البترولي والغازي من الخارج، المكتفية بتلك الثروة التي تتسلمها، لن تحتاج في هذه الحالة لجهد مواطنيها لتوليد ثروة تتسلمها الدولة عادة في شكل ضرائب وثمن خدمات، فاننا أمام مشهد مركب: دولة مستغنية عن جهد مواطنيها وقادرة على تقديم بعض الخدمات المعيشية الأساسية لمواطنيها، ومواطنون سعيدون بالذي يحصلون عليه دون عناء ولا بذل جهد.
إنها معادلة فيها كل الإمكانيات التدميرية للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهي حياة مناقضة لكل ما تقوم عليه الديموقراطية من متطلبات، وعلى الأخص مبدأ المواطنة.. والأسباب؟:
1 - نحن أمام دولة تتسلم ثروة الريع الخارجي بكامله وتوزعه حسب مبدأي الولاء والزبونية من جهة والانتماء الفرعي غير الوطني الطائفي أو القبلي أو العائلي، من جهة أخرى. ولن يكون ذلك التوزيع قائماً على العدل والإنصاف والأولويات المجتمعية والالتزام الأخلاقي بالفقراء والمهمًّشين.
2 - في تلك الأجواء لايمكن أن تنمو مفاهيم المواطنة القائمة على غياب ممارسات التمييز والمحسوبية، على المساواة في الفرص الحياتية والحقوق والواجبات وأمام القانون، على العضوية الكاملة في الحياة السياسية، خصوصاً الحياة السياسية الديموقراطية التي تحتاج لنجاحها إلى فاعلين ومشاركين يمثلون المجتمع ويدافعون عن حقوقه أمام إمكانية تغول الدولة وممارساتها الخاطئة.
3 - هناك ارتباط وثيق بين امتلاك السلطة والثروة، والعكس صحيح أيضاً، إذ ان من يملك السلطة يملك الطريق إلى الثروة. وبالطبع فالحديث عن إمكانية قيام مجتمع ديموقراطي، حيث تمتلك أقلية الثروة والسلطة، هو لغو وتهريج تكذبه وقائع تاريخ البشرية عبر كل العصور.
هل كل ذلك يعني عدم إمكانية قيام نظام ديموقراطي في أي دولة يقوم اقتصادها على دخل ريعي خارجي لمادة واحدة، الجواب هو بالطبع كلا.
بالإمكان الانتقال إلى نظام ديموقراطي في مثل هكذا دول اذا حصل إصلاح جذري في نظام الاقتصاد الريعي، إنتاجا للريع، وبيعاً، واستلاماً للثروة وتوزيعاً لها، واستغلالاً لجزء منها في توليد ثروة إنتاجية قائمة على الجهد والتنظيم، وسيطرة ومراقبة مؤسسية مجتمعية لكل تلك الجوانب. عند ذاك ستكون ثروة الريع تلك ثروة مساعدة في خلق نظام اقتصادي يصب في صالح الممارسة الديموقراطية بدلاً من نظام يشوهها ويحيلها إلى ممارسة مظهرية لا تخدم عموم المواطنين.
لقد جرى التركيز على الدول العربية النفطية الريعية لأن ذلك الريع يقرًّر نوع كل مناحي الحياة فيها. لكن، في الواقع، فان جميع الدول العربية هي دول ريعية بشتى الصور والأشكال والممارسات، وفيها جميعاً بنيت شرائح ريعية طفيلية تقف الدولة على رأسها وتشجع استمراريتها، وذلك من مثل ريعية الأراضي التي توزًّع أو المشاريع والوكالات التي ترسى حسب الولاء والزبونية أو بيع الجنسية أو بيع الجوازات في مضاربات الأسهم. إنها ممارسات تنسجم تماماً مع عقلية وتنظيم القبيلة التي تضرب في أعماق كل ارض العرب وتقوم على توزيع المكرمات حسب الولاء والقرب.
مستقبل الديموقراطية في مثل هكذا مجتمعات يحتاج إلى تغييرات جذرية في العقليتين الريعية والقبلية، وهو طريق طويل لابد من السير فيه، إلى نهايته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

863 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع