د. محمد عياش الكبيسي
انفردت المؤسسة التشريعية في باكستان بشأن التحالف العربي الإسلامي المساند للشرعية اليمنية في مواجهة الانقلاب الحوثي والتغول الإيراني، حيث جاء قرارها مخالفا للرأي العام ولتوجهات الحكومة ومؤسساتها العسكرية والأمنية.
هناك تصور سائد أن القرار جاء بالضد من (عاصفة الحزم) وأن الأذرع الإيرانية قد تمكنت من اختطاف القرار خاصة أنه جاء بعد زيارة ظريف، والحقيقة أن القرار لا يبدو بعيدا عن الموقف التركي من حيث إنهما يتحفظان على إرسال القوات العسكرية إلى اليمن مع الالتزام بالدفاع عن السعودية والحرمين الشريفين تجاه أي عدوان إيراني محتمل، وهذا الموقف يبدو مقبولا لأن الحوثيين ومن تحالف معهم من بقايا جنود علي عبدالله صالح لا يشكلون خطرا جديا على المملكة، وهم أقل شأنا من أن تتحالف كل هذه الدول لمواجهتهم.
السعودية كانت تأمل بقرار أقوى يمثل رسالة جوابية قوية للتهديدات الإيرانية، ولذلك دفعت بإمام الحرم المكي الشيخ خالد الغامدي ليقوم بجولة واسعة داخل باكستان تضمنت إمامته لصلاة الجمعة بحضور الرئيس الباكستاني ووزير الأوقاف ثم ختم جولته بكلمة مؤثرة داخل البرلمان، وقد تمكن الغامدي من تحشيد الرأي العام إلى حد الاستعداد لإعلان (الجهاد) وإرسال المتطوعين للدفاع عن (المقدسات)، وهذا يعكس قدرة المملكة على تحريك الأمة الإسلامية ودفعها لتحمل مسؤولياتها، وفي المقابل كان الجهد الدبلوماسي الإيراني يعتمد على توظيف البرلمانيين الشيعة وشراء الأصوات العلمانية والليبرالية وتحييد عدد من الأصوات المستقلة، وبهذا تمكنت بالفعل من تخفيف حدة القرار، مما يعد نصرا معنويا ونقطة متقدمة في العمق السني، علما أن التسويق الشيعي داخل البرلمان قد اعتمد سياسة الطمأنة على استقرار المملكة، وأن الحياد العسكري في اليمن يؤهل باكستان لتكون جزءا من الحل لهذه المشكلة الطارئة!
الذي ينبغي التنبه له أيضا أن القرارات الاستراتيجية في باكستان ليست للبرلمان، وإنما هي للجيش ثم لجهاز المخابرات، وهما ملتزمان تماما بأمن المملكة وأمن الحرمين الشريفين، ولذلك جاءت التصريحات الحكومية الرسمية ومن أعلى المستويات بهذا الاتجاه فور صدور القرار البرلماني، وفي هذا رسالة كافية وواضحة، أما الشعب الباكستاني فلا شك أنه منسجم تماما مع جيشه وحكومته في هذه التوجهات، بل هو متقدم عليهما بكثير.
السؤال الذي يرد بشكل عفوي وتلقائي في هذه المقاربة: لماذا هذه الفجوة إذاً بين البرلمان وبين من ينبغي أن يمثلهم البرلمان؟
تكمن المشكلة في أن الجماعات والواجهات الإسلامية المختلفة لم تتمكن لحد الآن من بناء مشروعها السياسي القادر على تحويل (التدين الشعبي) إلى قوة سياسية فاعلة ومؤثرة، بل ما زال بعض الخطباء في المساجد يحذر من (المشاركة السياسية) لأنها بدعة دينية على رأي، وانشغال بالدنيا عن الآخرة على رأي آخر! وهناك من يتطرف ليحذر من (صناديق الاقتراع) لأنها في رأيه مناقضة لعقيدة (الولاء والبراء) ومنافية لمبدأ التسليم المطلق للشريعة الإسلامية! في مقابل هؤلاء تحتشد الأقلية الشيعية تحت فتوى (المشاركة الواجبة) التي تطلقها المرجعيات الشيعية هناك في كل دورة انتخابية والمدعومة بالمال الإيراني المتدفق دائما تحت عنوان (تصدير الثورة).
إن التدين الباكستاني الظاهر في الشعائر والمشاعر والمظاهر قد أصبح في الوقت ذاته أداة للانحسار السياسي، كما أن انشغال جماعات (الإسلام السياسي) بولاءاتها الداخلية وأطروحاتها الأيديولوجية المعقدة قد ساهم بإضعاف تأثيرها حتى في حاضنتها الدينية المفترضة.
إن مما ينبغي التنبه له أن إيران بعد أن تلقت لكمة سياسية شديدة من جارتها الأقوى ستعمل بطاقة فوق الاستثنائية لاختراق نقطة الضعف الباكستانية (البرلمان) في دورته القادمة مما يمهد لتغيير حكومي مناسب لإيران، وهذا هو التحدي الأكبر الذي ينبغي أن تعمل عليه المملكة العربية السعودية وحلفاؤها من الآن.
إن جولة الغامدي نموذج جيد للتواصل والتأثير الشعبي، وقد ذكرني هذا بمقولة لصدام حسين أيام حربه الطويلة مع إيران، قال: لقد اكتشفت أن تأثير علماء الدين في الخارج أقوى من تأثير السفارات والملحقيات الثقافية، وأن تأثير وزارة الأوقاف أقوى من تأثير وزارة الخارجية! لكن ينبغي التنبه أن الشعب الباكستاني ليس بحاجة إلى الخطاب التعبوي فهو معبأ بما فيه الكفاية، إنه بحاجة فقط إلى رفع الأغلال (الدينية) التي تحول بينه وبين مشاركته الفاعلة في الانتخابات القادمة، وإلا فإن مظاهرة دينية تخرج يوم الجمعة مهما كان عددها قد لا تساوي صوتا واحدا داخل البرلمان.
إن باكستان أصبحت اليوم ركنا أساسا في منظومة الأمن السعودي الخليجي، وهي قادرة على أن تشكل مع تركيا طوقا أعلى وأقوى مما بات يعرف بالهلال الشيعي، وقد اكتشفت السعودية نقاط القوة ونقاط الضعف في حليفهم الباكستاني، وكذلك الإيرانيون، وهذا يعني بالضرورة أن صراعا سعوديا إيرانيا ذا طابع دبلوماسي سيجري على الأرض الباكستانية، وهو صراع محسوم لصالح السعودية إذا قررت السعودية فعلا أنها لن تتراجع، وأنها (لن تترك ثغرة للشيطان).
إن إيران 2015 ليست هي إيران 2014 بعد أن توالت الضربات على خطوطها المتقدمة في سوريا واليمن، والتململ الواضح لدى شيعة لبنان حيث لم يعد منطق حسن نصر الله مقنعا لهم، والوضع العراقي لا يختلف كثيرا بعد أن فشلت الحكومات المتعاقبة في بناء الدولة التي يحلم بها الشيعة، مما ولد حالة من التشاؤم وانسداد الأفق، ولم يبق بيد الحكومة ومرجعياتها سوى التلويح بالخطر (البعثي الوهابي الداعشي) واستثارة المقولات الثأرية ذات البعد الطائفي المكشوف. من الواضح أيضا أن الإمكانيات الاقتصادية لإيران لم تعد قادرة على تغطية كل هذه المساحة الشاسعة التي انتفخت فيها دون حساب ولا كتاب، يضاف إلى ذلك التحركات التحررية المتصاعدة مع وجود تيارات معارضة داخلية قوية سيكتشفها العالم في أول انفراج متوقع للقبضة الأمنية الحاكمة.
إن محور (السعودية- تركيا- باكستان) قادر اليوم أكثر من أي وقت آخر على أن يعيد الأمور إلى نصابها وقوامها الصحيح، وأن يضع حدا لهذه الفوضى ولهذه الحالة النشاز التي صنعتها ثورة الخميني في غفلة من الزمن.
1037 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع