د.علي محمد فخرو
من المعروف أنه عندما تتأجج عاطفة الغيرة وتقحم نفسها في علاقات الحب والمودة بين الأفراد فانها تشوه تلك العلاقات وتقودها الى جحيم الهيمنة والعنف، ومن ثم الجريمة، ومن يريد أن يعرف عن الجنون والقسوة والهذيان وغيرها من الانفعالات التي تنتج عن الغيرية في حياة البشر فما عليه الا أن يقرأ قصة عطيل الشهيرة للمبدع شكسبير.
في أرض العرب، في أيامنا التي نعيشها حاليا، تتأجج عاطفة الغيرية الدينية عند البعض بشكل لاعقلاني يقود أصحابها الى العنف، فالارهاب، فارتكاب الجرائم البربرية اللا انسانية.
فكما يعيش غير الناضجين جحيم الغيرة باسم الحب يعيش المتزمتون والمتعصبون جحيم الغيرية باسم الدين، وكما يموت الحب في الحالة الأولى يموت التسامح الديني في الحالة الثانية، قضية التسامح الديني، عقيدة وفكرا وممارسة، أصبحت في قمة أولويُات هذه الأمة، وذلك بعد أن قادت غيرية اللاتسامح الى تدمير الأوطان وتهجير الملايين، وقلبت أهم مجتمعات الوطن العربي الى مآتم بكائية حزينة يائسة يعشش فيها الموت وتغيب عنها بهجة وآمال الحياة.
ولا يستطيع الانسان أن يدرك أو يتفهم أو يتعاطف مع غيرية عنفية تمارس باسم دين يؤكد «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم»، وفي آية «لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، وفي آية « فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضُوا من حولك «وفي آية» انك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين»، وفي آية «ولو شاء ربُك لأمن من في الأرض كلُهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» وفي آيات أخرى كثيرة تصل الى حوالي المائة آية.
كيف توجد غيرية عنفية متزمته غير متسامحة في دين يقول نبيُه - صلى الله عليه وآله وسلم- عن نفسه «ولكن بعثني معلما ميسرا»، ويقول أحد أهم أئمته، الامام أبو حنيفة النُعمان، «كلامنا هذا رأي»، فمن كان عنده خير منه فليأت به.
نحن اذن أمام رذيلة اللاتسامح التي ينشرها البعض كلمات حق يراد بها باطل، هنا يجب التذكير بأن تجارب المجتمعات الأخرى أظهرت أن حل مسألة اللاتسامح الديني هو مدخل أساسي للانتقال الى التسامح الثقافي، ومن ثم الى التسامح القانوني، ومن بعدهما الى بناء النظام الديموقراطي العادل.
ان المدخل الرئيس الى حل اشكالية الغيرية الدينية العنفية اللامتسامحة هو، كما كتب عنه الكثيرون، المراجعة الموضوعية العقلانية لما علق بالدين الاسلامي من قراءات خاطئة لبعض نصوصه الأصلية، سواء في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية المؤكدة.
من مثل هذه القراءات التي لها تأثير كبير مفجع على مايجري حاليا في وطننا العربي قراءة البعض من الغيريين المتزمتين وأتباعهم التكفيريين لما يعرفه البعض بآيات السيف التي يدعون بأنها نسخت آيات الاسماح واليسر في القرآن الكريم، ان قراءتهم لا تأخذ أي اعتبار لسياق الآيات التاريخية التي عندما نزلت كانت تتعلق بالحروب التي شنها المشركون على الدعوة الايمانية الوليدة.
ان هؤلاء لا يعون بأن عدم الحيطة في قراءة تلك الآيات سيكون أفضل هدية تقدم لتكفيريين جهلة يجرون أمة الاسلام الى حروب ابدية عبثية مع أتباع الديانات الأخرى ومع قوى احادية كبيرة تنتشر في العالم بسبب طغيان الاستهلاكية المادية المريضة.
وينطبق الأمر نفسه على أهمية مراجعة مواضيع لا تسامحية مــــن مثل تقسيم العــالم الى «دار الاسلام» و«دار الحرب»، أو موضوع الجهاد المساء فهمه الى حد السخف والعته، أو موضوع التزمُت المريض بشأن حقوق المرأة حيث يغطي البعض على العادات والتقاليد العربية المتخلفة بشأن مكانة المرأة وكرامتها غطاء «دينيا» من خلال قراءات وتفاسير خاطئة. والأمثلة الأخرى كثيرة لا حصر لها.
ان المنطق والتجارب البشرية تؤكد أن الغيرية الدينية العنفية اللامتسامحة تختفي، ويحلُ محلُها التسامح الديني، عندما يكون الأفق الديني واسعا وليس مهيمنا عليه من قبل مرجعية ضيقة الأفق كما هي الحال في بعض البلدان العربية والاسلامية.
ان اللاتسامح يتعايش وينمو مع انسداد الأفق السياسي، وذلك بغياب الديموقراطية التي في ظلها توجد حرية الرأي والاختلاف والتجمُع والاحتكام الى القانون والمساواة في المواطنة،عندها تتراجع اصوات وشعارات التكفير والتخوين والتهميش والاستئصال في مجالات الدين والسياسة والاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
في ظل الديموقراطية الحقة ستكون هناك امكانية وجود قوانين عادلة يتساوى أمامها جميع المواطنين، ومناهج تربوية ترسخ الفكر المتسامح والضمير اليقظ، ووسائل اعلامية لا تمارس التحقير والازدراء والتخوين وتوزيع شهادات البراءة الكاذبة.
مطلوب كبح جماح الغيرية الدينية العنفية التي تؤدي بأصحابها الى عدم رؤية النور الرباني المتسامح والاصرار على ممارسة الانتهازية السياسية النفعية الحقيرة باسم غيرية مريضة كاذبة.
1072 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع