بقلم / عودة وهيب
ادركت ان خالد قد سكر، فقد احتسى نصف قنينة الخمر، ولما حاولت ثنيه عن الاستمرار بالشرب نظر الي بعيون بدت لي مثل غيمة توشك أن ترمي اثقالها وقال : ( تعرف .. اليوم ذكرى وفاة والدي الحجي؟؟؟ )
حاولت تبديد حزنه فاصطنعت ضحكة وانا اقول له ( يعني گاعد تشرب بثواب الوالد؟؟؟ )
نظر الي بحزن وقال :
( تعرف .. والدي الله يرحمه چان يشرب يومية ..؟؟؟؟؟؟؟؟)
ضحكت بصوت عال لان ماقله يشبه نكات الحشاشين فوالده يتميز بالتزام ديني كبير.
نظر خالد الي باستنكار قائلا :
( انت تتصور انا سكران ..وداعتك انا اصحى منك ، بس اني اليوم اريد احچيلك سر، بشرط تواعدني ماتحجي لاحد؟؟!!!)
نظرت اليه بحيرة وهززت راسي موافقا فانطلق يحكي سرّه وعيونه تغوص في مجهول بعيد..
(( كان عمري لايزيد عن ثلاثة عشر عاما حين عاد ابي ذات مساء من الجامع بعد ادائه صلاة المغرب والعشاء . خلع ملابسه ودخل المرافق الصحية . وقتها طُرق بابنا فادركت انه( شكوّري السايق) ، فهو ياتي كل ليلة بعد آذان المغرب بساعة تقريبا حاملا ( علاگة )، وكان والدي لايسمح لاحد غيره بفتح الباب واستلام العلاگة التي فيها قنينة دواء لمعدته التي يكثر الشكوى منها .. اقتربت من المرافق الصحية وكلمت ابي ( بويه .. شكّوري يدك بالباب .. اروح اجيب منه العلّاگه؟؟ ) كنت اتوقع ان يرفض ولكنه قال ( اكو افلوس بجيب سترتي .. خرده ووياهن ربع دينار ... اخذ الفلوس كلهه وانطيهه لشكوري وجيب العلاگه منه ) ففعلت .
وكما يحصل في كل ليله ، فبعد أن انهت امي صلاتها ودعاءها فرشت سماطا صغيرا على ارضية الغرفة وضعت فوقه( كاسة) لبن خُلطت معه قطعا صغيرةٌ من الخيار وصحنا فيه حب الرمان..
تحلقنا (انا واخي ناجي وكان عمره ثمان سنوات واختي زهراء وكان عمرها ست سنوات ) حول السماط ننتظر التحاق ابي بنا .. مدت زهراء يدها والتقطت حبات رمان فنهرتها امي قائلة ( هذا مال دوه ابوچ ، لاتجيسينه )
رمت زهراء حبات الرمان في الصحن ووضعت راسها في حجرها دلالة على زعلها ..
دخل ابي والقى نظرة متفحصة سريعة على انحاء الغرفة ثم ركز نظره على زهراء وتوجه نحوها ورفعها عن الارض وضمها الى صدره وقبلها قائلا :
( منو مزعّل زهورتي؟؟ )
سكتت امي غير ان اخي ناجي قال ( امي ماخلتهه تاخذ رمان ) سكت ابي واتجه الى مقعده بجوار امي واجلس زهراء في حجره وتناول ملعقة وملأها رمانا وقربها من فم زهراء التي امتنعت عن فتح فمها في البداية ثم فتحته على اتساعه فالقمها ابي الرمان ثم وضعها جنبه وغرف غرفة رمان ومد جذعه الى الامام نحو ناجي والقمه الرمان ..كان لعابي يسيل لمنظر الرمان وكدت اطلب من ابي ان يعطيني شيئا منه ولكنه بادر الي بغرفة رمان فاسرعت بها الى فمي فرحا ..تناولت امي ( العلاگة ) ووضعتها امام ابي . لم يخرج ابي قنينة الدواء من( العلاگه ) بل فتح غطاء القنينه وهي داخل ( العلاگة ) وسكب قليلا من الدواء، الذي يشبه الماء، في قدح زجاجي ووضع فوقه قليلا من الثلج ثم ملأ القدح ماء فتحول الدواء الى مايشبه اللبن او الحليب .. سارعت زهراء وبغفلة من ابي الى التقاط غطاء القنينه وقربته من انفها ثم التفتت الى ابي قائلة : ( بابا هذا ماي غريب ؟ ) خطف ابي منها الغطاء واغلق به القنينه قائلا : ( اي بابا هذا ماي غريب مال كبار )..
ارتشف ابي نصف القدح ببطيء فسارعت امي باعطائه ملعقة من مزيج اللبن والخيار فراح يمضغه بتأني ثم مسح فمه بيده قائلا :
( الحمد لله ..الوجع راح)
نهضت زهراء وجلست في حجر ابي فقبلها وراح يلعب معها..
لاحظتُ ان امي تتالم فقلت لابي : ( بويه .. امي مدري شبيهه؟ ) فالتفت ابي الى امي مستفسرا بلهفة :( ها ام خالد اشبيج ) فقالت وهي تضع يدها على بطنها : ( الله يكفيك الشر اليوم بطني توجعني، من الظهر لي هسه تجيني لويات... وجربت كل دوياتك ومافادنّي ).
وجه امي احمر كحب الرمان انقلب الى اصفر مما اثار قلق ابي فقال لها :
( يله البسي خل اخذج للطبيب ) نظرت امي الى قدح والدي ومدت يدها اليه قائلة ( لا .. راح اجرب دواك ).. خطف ابي القدح من يدها مستنكرا :( لا لا ام خالد .. هذا دوه قوي ايأذيج ..) حاولت امي اخذ القدح من يد والدي قائلة ( ماراح ياذيني اكثر من الاذيه اللي انه بيهه ) ابعد والدي القدح عنها شارحا : ( ام خالد هذا الدوه يدوّخ، خاصة اذا واحد مامتعود عليه ) بان الزعل على وجه والدتي وقالت معاتبة ( ابو خالد اتعز الدوه علي ) ..
اسقط في يد والدي وقدم القدح اليها فنهبته من يده وارتشفته بسرعة فالقمها والدي ملعقة لبن .. هزت امي راسها كطير مسه بلل واغمضت عينيها قائلة بوجه مقطب ( الله يساعدك عليه .. كلش مر ) ظل والدي ينظر اليها بحيره وكانه يتوقع منها شيئا غير عادي .. اخذت امي قليلا من الرمان وراحت تمضغه ثم تناولت ملعة من اللبن وبلعتها ثم استرجعت استرجاعة كبيره ( تييييييييييييييييع ) ثم اخذت نفسا عميقا .. ظل والدي ينظر اليها بقلق وقال لها ( ها اشلونج ) نظرت اليه وكانها تراه لاول مره قائلة ( ابو خالد هذا مو دوه .. هذا سحر ..راسا الالم راح من بطني ، بس انه شويه دخت ) فقال والدي ( اشويه وتتحسنين )..
صنع ابي قدحا اخر وأرتشف نصفه ثم قدمه لامي فاخذت منه رشفة واعادته اليه وسارعت الى اللبن وتناولت ملعقتين.
فعلت نفس الشيء مع قدح ابي الثالث والاخير..
نهضت امي وفتحت التلفزيون فانطلق صوت ناظم الغزالي وهو يغني( طالعة من بيت ابوها ) ظلت امي تنظر الى ناظم ثم التفتت الى ابي قائلة وهي منشرحة ( ابو خالد ..ناظم يشبهلك كلش ..) ضحك والدي قائلا :( ولهل السبب عشقتيني وذبحتي نفسج علي ..) تقدمت والدتي وجلست خلف ابي وحضنته قائلة ( انت احلى الف مره من ناظم ) فالتفت اليها والدي وقبل جبينها قائلا وهو متورد الخدين : ( انت ارق واجمل انسانه ..) شعرت امي انني اراقبهم فابتعدت عن والدي ثم نهظت وتقدمت من التلفزيون وعاودت النظر الى ناظم وهي تحرك جسدها وتدور حول نفسها ثم راحت تغني معه بصوت شجي فراح ابي يصفق ويدق ( اصبعتين ) ..وما ان انتهى ناظم من اغنيته حتى غابت امي برهة وعادت وهي تحمل صينية الطعام ..
صارت امي تشارك ابي دواءه كل ليله وسط اجواء فرح وضحك وغناء.. لاحظت ان مسحة الحزن التي كانت ترافق امي بعد وفاة والدها قد اختفت وعاودتها روح المرح واختفت عصبيتها التي كنا نخشاها وصارت مرحة جدا.. صرنا انا واخوتي ننتظر المساء كي نستمتع ب( حفلة ) الطرب حيث ترقص امي وتتناوب الغناء مع ابي، وكان طرق (شكوري) على بابنا مبعث فرح لنا .. كنا نغتم اذا حلّ علينا ضيوف ففي مقدمهم نمضي مساء خاويا .
ذات يوم جاءت خالتي واخبرت امي انها وزوجها سيذهبان هذا العام الى الحج ثم سالت والدتي :( ام خالد ليش ماترحين ويانه للحج انت وابو خالد ..)بدا على امي انها تفاجأت من هذا العرض غير انها صارت تلح على والدي يوميا وتطلب منه الذهاب معها الى الحج .. رفض والدي باصرار عجيب رغم اننا لم نشاهده يوما يرفض طلبا لها ،غير انها استمرت بالالحاحها عليه وتحولت (حفلات الطرب) الى حلقات نقاش وجدل، فما ان يتناولا الكاس الاول من الدواء حتى تلتفت امي الى ابي قائلة : ( ها ابو خالد اشكلت.. انروح للحج ) ، ملّ ابي من الرد عليها فصار يجيبها ب ( دقتي اصبع ) وعندما تواصل الالحاح وتحاول ايقاف ( عزفه ) يقول لها ( دخل نتونس الليله والله كريم ) فتقول له (وعد ..؟) وعندما يهز راسه دلالة الموافقة تعود الى مرحها وغنائها الى حين موعد العشاء ، وفي الصباح ينكث بوعده ويهرب من البيت الى عمله..
ولكنه في النهاية وافق ودفع الى ( الحمله دار ) تكاليف الحج وصارا يتجهزان لرحلة الحج..وذات يوم وحين كان ابي يجهز احدى الحقائب اقتربت منه امي قائلة ( ابو خالد مو تنسه الدوه .. خلي (شكوري) ايجيب النه كميه زينه ، خاف مانكله ابيت الله من عنده ) نظر اليها والدي وانفجر ضاحكا فقالت محتجة ( اني كلت شي يضحّك ؟! ) استمر والدي يقهقه وامي يعصف بها الاستغراب وهي تردد ( اشبيك .. اشبيك .. ليش تضحك ؟) كتم ضحكه وقال ( لا هيج اتذكرت نكتة قديمة ) امسكت امي بيده وهزته برفق قائلة ( ابو خالد عليّ .. كلي ليش تضحك ) نظر اليها والدي مبتسما :( اضحك على قلة ايمانج .. هو اللي يروح لبيت الله يحتاج دوه .. مو احنه راح نصير ضيوف الرحمان والرحمان يبتلي بينه ) نظرت اليه امي باستغراب قائلة :( هاي انت تحجي من كل عقلك ..ليش اللي يرحون للحج مايتمرضون ؟! اشو بالعكس اللي يروح صاحي يرجع مريض، وكلّه باجره )..قال والدي وبقايا الضحك على وجهه ( انه ماراح اخذ اي دوه لان عندي اعتقاد بالله ، انت شعليج ، انا المريض لو انت؟ ) شعرت والدتي انها هُزمت فقالت بحنو ( اتريد الصدك، انه تعودت على هلدوة .. رحم الله والدين اللي سواه ..موبس مايخلي الم ..يخلي الدنيه حلوه ويزيل الكآبه )..
حين عادا من الحج تحسنت معدة ابي وماعاد بحاجة الى ذلك الدواء ولم نعد نرى (شكوري ) ،غير ان امي صارت تشكو من معدتها ومن آلام مختلفه وكانت كل يوم تطلب من والدي ان ياتي لها بذلك الدواء وكان يرفض بصورة قاطعة مختلقا مختلف الاعذار فعاودت امي عصبيتها وصارت تتذكر والدها كل يوم وتبكي..
تغير ابي كثيرا بعد عودته من الحج واشتقنا كثيرا الى ( حفلات ) الايام الخوالي .. اصبح ابي صارما، ففي الصباح وبعد ان ينهي صلاة الفجر ويوقد النار لاعداد الفطور ويضع ابريق الشاي على النار يوقض امي لتصلي ولتستكمل باقي عملية الافطار .. نتناول الافطار بصمت فوجه ابي مقطّب وامي ساهمة ونحن اطفالهم الثلاثة كاننا في صف عسكري ينتظر قيام امر الوحدة بالتفتيش ..
لم يكن ابي كذلك قبل ذهابه الى حج بيت الله الحرام .. شعرت وقتها ان الحج قد هدم سعادتنا..
وحين جاء موعد( زيارة الاربعين) استأجر والدي سيارة وذهب مع امي الى كربلاء وفي الطريق انقلبت السيارة فمات ابي حالا ولم تصب امي باي اذى ..
خيمت الاحزان على بيتنا وتدهورت صحة امي وذات يوم قالت لي ( يمه خالد اني اليوم كلش تعبانه واريد اجرب الدوه مال ابوك .. يمه هاك دينار وروح للكراج وبس يجي( شكوري) كله امي اتريد من دوه الحجي ..) اخذت الدينار وانطلقت الى الكراج وانتظرت قدوم ( لوري ) شكوري ولما لمحت قدوم ( اللوري) هرعت الى شكّوري وناولته الدينار قائلا :( عمي، امي الحجيه اتسلم عليك ، وتريد اتجيبلهه من دوه الحجي )..
نزل شكوري من سيارته وامسك بيدي واخذني بعيدا عن السيارة وسالني :
( انت شگلتلي ؟!)
فارتبكت وتوهمت انني اسئت اليه فقلت له ( عمي انا ماكلت شي ) فقال باستغراب ( لعد هذا الدينار شنو؟ ) فقلت ( عمي هذا مال الدوه .. امي تسلم عليك واتريدك اتجيبلهه من الدوه اللي جنت اتجيب منه للحجي والدي )
ظل شكّوري ماسكا بيدي وينظر الي مستغربا ثم سالني ( انت متاكد امك هيجي كالتلك ) فهززت راسي ، فوضع الدينار في جيبي وقال لي ( سلملي على الحجية وكلهه ذاك الدوه ماموجود منه .. استيراده انقطع ..) رجعت لامي واخبرتها بماقال فامتعضت وتمتمت قائلة ( الله يگطع عمرهم بحق مصيبة الحسين )...
م/ الحوار المتمدن
1187 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع