كما كان متوقعا، لم يتمكن الإبراهيمي حتى من تقديم رؤية لمعالجة الموقف السوري، وأحبطت السلطة هدنته بشروطها وممارساتها ولم يقل كلمة واحدة عنها. وإذا كان هذا السكوت ضرورة دبلوماسية، فلم يتبقَّ له قرار يستحق الانتباه إلا إعلان الفشل، لتبرئة ذمته من المشاركة في سفك دماء الأبرياء، تمهيدا لتحمل المجتمع الدولي لمسؤوليته، والتوجه إلى تدخل عسكري مباشر «غير مكلف» لفرض حظر الطيران، لوقف واحدة من كبرى جرائم الإبادة، يتعرض لها الأبرياء، وتدمر بها مدن تحت نظر العالم بطريقة لا تحتاج إلى البحث والتحقيق.
ويمكن وصف الموقف القتالي الحالي بعجز «الطرفين» عن تحقيق تقدم جوهري خلال الأسابيع القليلة الماضية. نتيجة الاستخدام غير المقيد للقوة الجوية والهليكوبترات الهجومية. الذي ساعد السلطة على وقف اندفاعات الثوار مرحليا، وحافظ على تماسك بعض وحداتها الأرضية وفروعها الأمنية. وإلا فمن غير المنطقي أن تحتفظ بوجود أمني في محافظة إدلب الأبعد جغرافيا عن قواعدها الأساسية في دمشق وما حولها، وتشن حرب إبادة، بعمليات قصف جوي عشوائي من ارتفاعات عالية، تفاديا لمقاومات جوية لا تزال بدائية.
وفي ظل التخاذل الدولي والهزال الأميركي، تدعو السيدة هيلاري كلينتون المعارضة السورية، لمنع اختطاف المتطرفين لثورتهم. وهي دعوة حق وصحيحة، سبقها فيها مؤيدو الثورة في هذه الجريدة وغيرها. لكن ألم تدرك الخارجية الأميركية معنى أن يغمض المجتمع الدولي عيونه عن حرب إبادة جماعية؟ وهل يقل الخطر الروسي اليوم عن خطره الذي هزم في أفغانستان؟ فلماذا دعم الأميركيون المقاتلين هناك بصواريخ مضادة للطائرات كانت حديثة، ومنعوها عن الثوار السوريين بعد أن أصبحت قديمة نسبيا ووصلت إلى إيران؟
باختصار، ما كان بشار قادرا على إعادة تماسك قواته لولا الدعم العسكري الإيراني والجنوب اللبناني المباشر بآلاف المقاتلين، والتغطية الروسية اللئيمة، والتعويض غير المقيد عن مصروفات العتاد اليومية الضخمة. فالملاحة البحرية مفتوحة «عمليا» بين إيران وطرطوس، ومفتوحة «كليا» لشحنات الأسلحة الروسية، بما لا يبقي حاجة فعلية للنقل الجوي، إلا للحاجات الضرورية لعمليات النقل الطارئة وحركة المقاتلين. وأصبح واضحا أن العتاد لا يشكل معضلة.
الاتفاق غير المباشر بين رفض السلطة للحلول السلمية، والتخاذل الأممي في دعم الثورة الشعبية، سيؤدي إلى حرب طويلة الأمد لا يفترض التذرع فيها بـ«أن النصر حليف الثورة». فالنصر الذي يبنى على دمار هائل يبقى طعمه مريرا. وعلى المجتمع الدولي والعرب وأصدقاء سوريا الحقيقيين «قبول المجابهة» لحماية العالم من «محور الشر الأحمر» قبل فوات الأوان، إن لم يكن بينهم متآمرون! لأن ما يحدث من جرائم يطعن الإنسانية في الصميم، ويضع الأمم في دائرة الاتهام بعدم الإنصاف.
ومع عدم قدرة أحد على إنكار الدعم العربي والتركي، والدعم المعنوي والمالي نسبيا من الغرب، يفترض أن يكون الدعم أكثر قوة، وتدفقا، ونوعية، وتقنية. وعلى الثوار البقاء على إنسانية الثورة ومبادئها المتحضرة، وتفادي وقوعها في شرك التطرف أو التمييز اللوني، الذي يعمل «محور الشر الأحمر» على تحققهما، بإثارة معارك جانبية كالتي أحدثتها زمر عملاء السلطة وغيرها في حلب مؤخرا. فالحضور الكردي مهم كحضور الآخرين من شرائح المجتمع السوري، رغم الدوافع المضادة التي تقودها السلطة وغيرها. وينتظر من القادة العسكريين الثوار وقفة موحدة، وينتظر من الإعلام العربي تقوية روابطه مع كبار الضباط وقادة الكتائب.
المبالغة المفرطة في توقع احتمالات الحرب الإقليمية يفترض أن لا تخيف عامة الناس، وليس أجهزة المخابرات التي تقع عليها مسؤولية تقدير الموقف بشكل سليم، بعيدا عن الانسياق وراء السياقات الجامدة والتحليلات الرتيبة، التي تخضع لتأثيرات الحرب النفسية. فالتوازن الاستراتيجي على المستوى الإقليمي ليس في صالح فريق القمع ومن يقف وراءه «الآن»، لنقل الصراع خارج سوريا، عدا لبنان. غير أن التوازن سيتغير جذريا إذا ما تراجعت الثورة السورية. وإن كانت دول غير مهتمة بدماء الضحايا ودموع المشردين، فستجد نفسها عرضة لحرب إرهابية إقليمية معقدة يجيدها «محور الشر الأحمر». والأمة التي تفخر بجسامة تضحياتها وقائمة قتلاها الطويلة بحاجة إلى مراجعة حساباتها من هذا الهوس اللامعقول. فانتصروا للثورة يا عرب، قبل أن تتحول الأزمة السورية إلى كارثة تترتب عليها معضلات استراتيجية خطيرة «جدا» عليكم، ولن ينفع عندئذ قضم الأصابع.{jacomment off}
1055 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع