جـــودت هـوشيار
المصادفة المحض ، هي التي قادتني الى التعرف على مؤلفات المستشرق البارز ميخائيل لازاريف (2010 - 1930 ) ، عندما كان يخطو أولى خطواته في دراسة التأريخ الكوردي . كان ذلك في عام 1964 ، عندما كنت طالباً في موسكو ، وأسكن بالقرب من أكاديمية العلوم السوفيتية ، وكان هناك متجر للكتب يحمل اسم " الكتاب الأكاديمي " غالبا ما اتردد عليه للأطلاع على الأصدارات الجديدة للأكاديمية في شتي حقول المعرفة . وفي احدى زياراتي للمكتبة وقع نظري على كتاب باللغة الروسية يحمل عنوان " كوردستان والقضية الكوردية " لمؤلف لم أكن قد قرأت له شيئاً من قبل ... وفي أول فرصة سانحة شرعت بقراءة الكتاب بتمعن ، وكم كانت فرحتي عظيمة عندما أكتشفت ، ان منهج لازاريف العلمي في البحث والتحليل والأستقراء التأريخي ، لا يشبه بأي حال من الأحوال ، ما قيل وما كتب الاف المرات عن الكورد ، وأقصد بذلك المعلومات العامة السطحية عن الكورد وكردستان التي دأب الكثير من المستشرقين الغربيين والكتاب الشرقيين على ترديدها ، وكأن الكورد يعيشون في بقعة مجهولة ويأتي مؤرخ أو كاتب مزعوم ليعرفنا بهم . وتتصف كتابات هؤلاء الباحثين المزعومين ، بطابع عمومي ، دون التعمق في دراسة القضية الكوردية .
مثل هذه الكتب لا تساوي قيمة الورق الذي طبعت عليه ، اما كتاب لازاريف فقد كان مختلفاً تماماً ، ويتناول بالبحث المعمق الجاد ، فترة محددة من التأريخ الكوردي ويمتاز بثراء مصادره الأصيلة وغزارة معلوماته وبمنهج علمي ينم عن عمق فكري وموضوعية يفتقدها القاريء لدى الآخرين ، والأهم من ذلك ، أن لازاريف ينظر الى الشعب الكردي نظرة صديق ، يحاول فهم محنته ويستشعر الظلم الذي لحق به ، ويؤشر مواطن القوة والضعف في مسيرته النضالية على مدى عقود ، من أجل أنتزاع الأعتراف بهويته وأثبات وجوده ونيل حقوقه القومية والأنسانية والثقافية المشروعة في العيش الكريم على أرضه التأريخية حراً ، مستقلاً . شعب يتطلع الى الحرية و العدالة والكرامة الأنسانية اسوة بشعوب الأرض كبيرها وصغيرها .
يؤكد لازاريف في مقدمة كتابه القيم : ان زمن الكتب ذات الطابع العام عن الكورد و كوردستان قد انتهى وولى الى غير رجعة ، بصدور كتابي فلاديمير مينورسكي ( 1877 – 1966 ) وفاسيلي نيكيتين ( 1885 - 1060 ) عن الكورد ، ولم تعد ثمة فائدة من اجترار المعلومات العامة ، وحان وقت دراسة التأريخ الكوردي على نحو علمي معمق تتناول فترة زمنية معينة .
ورغم مضي نصف قرن على هذا التأكيد ، فأن دور النشر العربية والكوردية ماضية لحد الآن في طباعة و نشر كتب ذات طابع عام عن الكورد وتأريخهم وثقافتهم ، وكأنهم أمة مجهولة ـ يتم كشف النقاب عنها. ومثل هذه الكتب فيها تكرار ممل للمعلومات التأريخية، ولا تستند الى أي وثائق رسمية او مراجع علمية رصينة ، بل تعبر عن رأي هذا المؤلف او ذاك ، الذي لا يخلو أحياناً من تشويه وتحريف .
كتاب لازاريف ، الذي استمتعت بقراءته ، كان كتاباً يبحث في " القضية الكوردية " خلال الفترة بين عامي 1891- 1917 ، وهو كتاب يستند - في المقام الأول - الى الحقائق وتحليل آلآف الوثائق الرسمية المحفوظة في ارشيف السياسة الخارجية الروسية وعلى رسائل الدبلوماسيين والقادة العسكريين الروس الذين أحتكوا بالشعب الكوردي في كوردستان نفسها ، أضافة الى الوثائق البريطانية ( الكتاب الأبيض ) ومئات المصادر الأخرى عن القضية الكوردية .
ومنذ ذلك الوقت ، رحت اتتبع كل ما ينشره لازاريف عن الكورد والقضية الكوردية باللغة الروسية ، ولا أعتمد على الترجمات العربية التجارية ، ولا على الترجمات الكوردية المبتسرة لمؤلفاته.
في عام 1972 صدرت طبعة منقحة وموسعة من الكتاب السابق تحت عنوان " القضية الكوردية بين عامي 1891 – 1917 " وقد نال لازاريف عن بحثه الموسع هذا شهادة ( دكتوراه العلوم ) في التأريخ ، وهي شهادة أعلى شأناً بكثير من شهادة الدكتوراه العادية ( ph.D ) .
كتاب لازريف الموسع والمنقح ، يربو على 400 صفحة بالبنط الروسي الصغير نسبيا ، ولو ترجم الى اللغة العربية فأن عدد صفحات الكتاب لا يمكن أن يقل عن 800 صفحة مع الملاحق والمراجع .
بعد عودتي الى العراق شرعت بترجمة الكتاب ترجمة أمينة ونشرته كحلقات متساسلة ابتداءاً من عام 1976 في مجلة " شمس كوردستان " التي كانت تصدرها " جمعية الثقافة الكوردية " في بغداد . وخلال زيارتي لموسكو في شهر آب/ أغسطس1977 حملت معي نسخ المجلة لتقديمها الى لازاريف ومقابلته والحديث معه عن الكورد والقضية الكوردية ..
لقاء لا ينسى :
كان صباحا مشرقا وجميلاً من صباحات خريف موسكو الندية ، حين توجهت الى معهد الأستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية الواقع في زقاق الأرمن ، وهو شارع يقع في قلب موسكو وقد احتفظ بأسمه القديم حتى يومنا هذا .
عندما دخلت من البوابة الرئيسية رأيت أمامي بناية تأريخية جميلة ومهيبة على الطراز الكلاسيكي تزين المنحوتات والنقوش البارزة واجهتها وجدرانها ً، وأمامها حديقة غناء . كانت اوراق الأشجار والورود تتلألأ بعد أن غسلتها مياه الأمطار ، ولاحظت فوراً نصبا تذكاريا من الغرانيت الرصاصي الغامق كتب على قاعدته اسم وتأريخ ميلاد ووفاة صاحبه ، وكان النصب يعود ( ويا للمصادفة ) الى شخص يحمل لقب لازاريف أيضاً.
لم اكن اعرف رقم هاتف لازاريف ، أخبرت موظفة الأستعلامات بأنني قادم من العراق وأود مقابلة البروفيسور لازاريف . وبعد مكالمة هاتفية سريعة قالت : تفضل معي وقادتني الى مكتب لازاريف .، الذي نهض لأستقبالي وعلى وجهه ابتسامة ود وطيبة . وما ان جلست على المقعد المواجه لطاولته ، حتى بادرت الى بيان سبب الزيارة .
قلت له: أنني ترجمت كتابكم الأخير ونشرته على حلقات في مجلة " شمس كوردستان " الصادرة عن جمعية الثقافة الكوردية ببغداد . والحق أني شعرت ببعض الخجل وأنا أقدم له أعداد المجلة المطبوعة طباعة بدائية رديئة على ورق أصفر باهت وصورته المنشورة مع كل حلقة بالأبيض والأسود كانت منقطة وغير واضحة المعالم تماما ، غير أنه على نقيض ما كنت أتوقع ، قال أنه سعيد لأن الكورد أنفسهم شرعوا بالأهتمام بتأريخهم وترجمة ما ينشر في روسيا والدول الأخرى في هذا المجال .
قلت : قبل ان نواصل حوارنا أود أن أسألكم : لمن هذا النصب التذكاري الذي يحمل لقبكم .؟
ابتسم هذه المرة ابتسامة عريضة وقال أن النصب لأرستقراطي أرمني قام بتشييد هذه البناية في سنة 1758 لتكون مقرا لمعهد الثقافة الأرمنية .
قلت : ولكن كنيته روسية .
لازاريف : نعم ان ابناء القفقاس من ارمن ويهود وغيرهم يتخذون القابا روسية بعد اقامتهم في روسيا .
وساد بيننا لحظات صمت .
قلت: اعرف ان حقوق المؤلف في بلادكم ، كما في البلدان الأخرى المتقدمة ، محفوظة ، لذا أعتذر ، لأنني ترجمت كتابكم دون الحصول على أذن مسبق منكم .
لازاريف : يسرني ترجمة أعمالي ، وأنا سعيد لأن الكورد أنفسهم أخذوا اليوم زمام المبادرة في دراسة تأريخهم بأنفسهم .
قلت : هل لي أن أعرف شيئاً عن مسيرتكم العلمية . ؟
لازاريف : لقد تخرجت في كلية التأريخ في جامعة موسكو عام 1952 متخصصا في تأريخ الأمبراطورية العثمانية ودرست اللغة التركية ، ثم واصلت دراستي العليا في الكلية ذاتها وكانت اطلروحتي للدكتوراه – التي دافعت عنها في عام 1955 - تحمل عنوان . " سقوط الهيمنة التركية في المشرق العربي (1914- 1918) " وبعد فترة قصيرة ، قمت باعادة كتابة هذه الأطروحة وحولتها الى كتاب صدر في موسكو عام 1960 ، و لا شك انك لاحظت خلال ترجمتك للكتاب ، ان الكورد قد لعبوا دوراً فعالاً وبالغ الأهمية في تأريخ تركيا.
* ومتى شرعتم بدراسة التأريخ الكردي ؟
لازاريف: بعد ثورة 14 تموز في العراق أصبحت القضية الكردية ، قضية مهمة وساخنة في العراق والشرق الأوسط . وكان لا بد من التعمق في دراسة تأريخ القضية وتطورها. وكان كتابي الأول يتناول "القضية الكردية " بين عامي (1891-1917) ، أي منذ اشتداد الصراع الأمبريالي على كردستان وحتى ثورة اكتوبر عام 1917 في روسيا ، وكان هذا الكتاب الى جانب كتاب خالفين " الصراع على كردستان " باكورة الأعمال الأستشرقية السوفيتية في هذا المجال . وأود ان أقول ان دراسة القضية الكوردية مثيرة للاهتمام علميا وموضوع في غاية الأهمية سياسيا ، وهي مهمة نبيلة ، لأن جوانب مختلفة لهذه القضية لم تدرس على نحو جاد.
قلت : رغم ان الكتاب يتحدث عن القضية الكوردية خلال فترة تأريخية محددة ولكن لاحظت انكم تتحدثون عن القضية الكورية في الوقت الراهن أيضاً .
لازاريف : لأن تركيا منذ سقوط الأمبراطورية العثمانية وحتى يومنا هذا تتبع سياسة الصهر القومي للكورد، ولا تعترف بالحقوق القومية الكوردية ، ويحاول البعثيون اليوم (1) في العراق أيضاً سلوك نفس السياسة الهوجاء .واصبح مادة هذا الكتاب بعد توسيعه وتطويره اساساً لأطروحتي لنيل شهادة دكتوراه علوم في التأريخ ، والذي صدر – بعد اعادة النظر فيه - ككتاب في عام 1972 تحت عنوان " القضية الكردية بين عامي 1891-1917 " ، وقد واجهتني في حينه بعض الصعوبات في قبول اطروحتي لأن احدى الجهات المقيّمة للأطروحة وهي " اكاديمية العلوم في ارمينيا " حاولت عرقلة ذلك لبعض الوقت.
قلت : ما السبيل الأفضل لحل القضية الكردية في رأيكم ؟
لازاريف : اعتقد ان حل القضية الكوردية يجب ان يكون ضمن كل دولة من الدول التي تتقاسم كردستان الكبرى ، لأن ظروف الكورد في كل دولة مختلفة عن الأخرى .ولا شك انك لاحظت ان الجزء الأكبر من كتا بي يتناول القضية الكوردية في تركيا ، لأن اعتراف الدولة التركية بحقوق الكرد ، سيساعد على حل هذه القضية ككل .
لم أكن أود أن اثقل على لازاريف من اللقاء الأول ، لذا أخذت الملم أوراقي التي سجلت عليها بعض الملاحظات . قلت وأنا أتهيأ للمغادرة اشكركم لأتاحة الفرصة لي لمقابلتكم وأجراء حوار معكم حول القضية الكوردية.
لازاريف : وانا ايضا أشكركم بدوري على جهدكم المبذول في ترجمة كتابي ، ويسرني ان أقدم لكم نسخة من البحوث والمقالات التي نشرتها في المجلات العلمية ، بعد صدور كتابي الأخير في عام 1972 .
وتناول لازاريف من أحد الرفوف بجانب طاولته ، نسخاً من تلك البحوث والمقالات . وقال وهو يقدمها لي : أقرأها ، لأنه يهمني رأي الكورد في ما أكتب(2) .
قلت : ان كتاباتكم تحظى بتقدير واعتزاز المثقفين الكورد وسأحاول ترجمتها الى اللغة العربية ، لأنه يندر أن تجد كتابا أو دراسة موضوعية عن القضية الكوردية باللغة العربية .
قال بأقتضاب : لك أن تترجم ما تشاء من أعمالي ، ذلك أمر يسعدني . وأرجو أن اوفق في دراسة القضية الكوردية في الفترات التي تلت عام 17 19. (3) .
غادرت المعهد وأنا اشعر ببالغ الأمتنان لهذا العالم الفذ ، والأعجاب بتواضعه الجم ، وهو تواضع يتصف به كل عالم حقيقي ، الذي يهمه المعرفة أولاً وأخيراً وليس الشهادات ومغانمها .
ان ثلاثية لازاريف ، التي تتناول القضية الكوردية في العلاقات الدولية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، هوعمل علمي رفيع المستوى ، ولا نظير له. وبهذا العمل الذي ذاع في الأوساط الأستشراقية والأكاديمية في العالم ، أثبت لازاريف ان الأمة الكوردية ، جديرة ، بالأستقلال الناجز . و قدم للكورد خدمة عظيمة تعجز مؤسسة علمية كاملة عن النهوض بها ، لأن الزمن لا يجود بالعلماء الأفذاذ من أمثال لازاريف ، الا نادراً .
انني ، من منبر هذه المجلة الغراء ، أناشد بلدية أربيل أطلاق اسم لازاريف على احد شوارع العاصمة ، كما أدعو المؤسسات العلمية الكوردستانية لأقامة الندوات العلمية حول أعماله العلمية . وأعتقد ان من أولى المهام التي ينبغي لوزارة الثقافة في الأقليم أن تقوم بها ، هي ترجمة الأعمال الكاملة لهذا العالم الجليل الى اللغتين الكوردية والعربية ، وهذا أضعف الأيمان .
هوامش :
1-جرى هذا الحوار – كما اسلفت – في صيف عام 1977 ، عندما كان حزب البعث يحكم العراق وتمر القضية الكوردية بمرحلة بالغة الصعوبة .
2-ثمة عرف جميل في الصحافة الروسية ، وهو طباعة الدراسة المنشورة لأي كاتب بشكل منفصل ايضا– على شكل ملزمة صغيرة ، ترسل عدة نسخ منها الى المؤلف ،
3-تابع لازاريف ، دراسة القضية الكوردية ، حيث أخرج في السنوات اللاحقة كتابان مهمان ، وهما :
- " الأمبريالية والقضية الكوردية ( 1917 – 1923 " ، موسكو ، دار نشر " العلم " 1989
- " كردستان والقضية الكوردية ( 1923 – 1945 " ، موسكو ، دار نشر " الآداب الشرقية " 2005
2261 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع