الدكتور/ عبدالرزاق محمد جعفر
أعمى بطريق مُظلم / الحلقة العاشرة!
أسـتمرت علاقة "صابر" بالصبية الجديدة"اليمامه", ما يقارب الثلاثة أشـهر, بين مـد وجزر, او قل في صـراع بين ضغط والديها بتركها وبين مشاعـرها المتأججة نحوه, والتي اوقدت نار حب لم يعرفه قبلاً,... ولذا صاريعاملها بطيبة واحترام متناهيان بعيداً عن كل ما يثيرعواطفها,.. واعتبرها كوديعة عنده , كما غنت المطربة فيروز:
المطربة فيروز
" زهرة بأديك أوعً تعطيها لـحـدا ! "
وفي منتصف شهر مايـس,1963، طلب والد "اليمامة" مقابلـة "صابر" في سكنه بجامعة موسـكو,..وتم اللقاء في الموعد المحدد, .. فقد كان الأب في مقتبل العمر وسـيماً و انيقاً بسـحنة روسـية واضحة المعالم, وابتسامة لـم تفارق شـفتيه, وكان حديثه مع"صابر"حديثاً متزناً وبكل احترام ، وراح يمتدح الحضارة العربية,...وتبين من كلامه مع صابر, انه ملم بتاريخ المنطقة السياسي والصراع العربي الصهيوني ! ,... ونوه بكلمات مبهمة عن احتمال اشتعال حرباً بين العراق وايران !,..لم يستوعب صابرمنطق ضيفه ولم يعرأهمية لقوله,.. مُعزياً ذلك لجهله في الدين وألروابط المذهبية والعلائق الأجتماعية التي تربط الشعب الأيراني والعراقي, منذ أن تشـيعت أيران أضافة الى وجود مـرقد الأمام علي (كرم الله وجهه), في مدينة النجف الأشرف ومـرقدي الأمامين الحـسين والعباس (عليهما السـلام), في مدينة كربلاء المقدسة لدى شــيعة العراق وايران,... فهل لأي عاقل يعتقد بمثل ذلك السناريو؟!
وما ان انتهت مراسم الضيافة حتى القى والد "اليمامة" الهَدف القاتل من تلك المقابلة,.. وفوراً دخل في الموضوع وسأل عن الغاية من هذه العلاقة غيرالمتكافئة مع ابنته؟!,... وراح يعدد الجوانب التي تنذربفشلها في المستقبل القريب, ونصح "صابر" بالتخلى عن ابنته, وان لا يغريها بالزواج منه,..لأنها مازالت طالبة نريدها أن تكمل دراسـتها,..وأنها ما زالت طفلة لم تمارس الحياة كبنات جنسها, فقد عاشت ومنذ طفولتها في دولة اوربية,..ولم تعقد صداقات الا مع بنات جنسها واولاد مرحلتها الدراسية,.. وعدنا للوطن منذ فترة وجيزة !
أكـد "صابر" للرفيق والد "اليمامه" انه لم يمسها اويغريها اويعدها بأي شيئ وبأستطاعته التأكد الآن من ابنته,.. وما ان أكمل "صابر"كلامه,..حتى هاج الضيف وراح يهدده بضرورة الأبتعاد عن ابنته قبل فوات الأوان, حيث لا يؤمن بعلاقة كهذه ما لم يحدث ما لا تحمد عقباه !, وطلب بكل صراحة من "صابر" الأبتعاد,.. والا سيدفع الثمن غالياً ويندم طول عمره ان هو استمر بعلائقة كما هي!
أعترضت "اليمامة" وراحت تهدأ من نبرة كلام والدها,وجلست على ركبتيه بدلال وهي تقبله,.. فهدأ على مضض , وقال : لا مانع من استمرارالعلائق كأصدقاء,..وبـس ,أي كما قي اللهجة العراقية : يابســـه وتمن !
وعند انتهاء الزيارة, خرج "صابر" بصحبة الضيف, لتوديعه الى موقف السيارات, حيث لم يكن في ذلك العهد من يمتلك السيارة الخاصة, وكبارالموظفون يتنقلون بسيارات فخمة تعود ملكيتها للدولة, ويقودها سواق موظفون, ولا يسمح بأستخدامها لأنجاز المهمات الخصوصية !
استمرالحديث بين صابر وضيفهعندما ودعه, وعلى الفور طفحت العادات الحميدة التي آمن بها "صابر",.. وعادت مثله العليا التي تربى عليها,... وتفهم مشاعر الأب واقترح عليه بتركها لمدة شهر كامل,.. فبعد اسبوع واحد سيغادرموسكو الى منتجع (سـوجي) على البحر الأسود,.. لحصوله على منحة الأجازة الصيفية التي تمنحها جامعة موسكو للطلبة الأجانب كل عام, ولذا سـتنقطع صلته بأبنته وتتوقف هي عن زيارته ،... لذا ستكون الكرة في ملعبه ,.. وطلب منه ترويضها بالطرق المتعارف عليها في مجتمعهم, وبنفس الوقت اكد "صابر" لوالد الفتاة تمسكه بها ان هي عادت له بأرادتها ولن يتخلى عنها البته !
ودع "صابر" والد خطيبته,..بعد ان تـمً الأتفاق بينهما على منعها من التردد عليه عند عودته من سـفرته الى المصيف , ووافق والدها على ذلك المقترح، وشكر"صابر" لنبله وعدم مساس عذريتها, ومعاملتهُ لها كفارس نـبـيـل !
عاد" صابر" الى غرفته , ووجد "اليمامة" قد رتبت الغرفة وغسلت الصحـون والأدوات المستعملة, ..واعادت مكياجها ,..ولما واجهها صابر حتى عانقته بحراره ولم تترك له المجال للكلام ,وقالت له هذه مشكلتي وانا وحدي الكفيلة بحلها, وما عليك غيرالتريث !
بعد ايام من (سيناريو المقابلة), المخطط له من اجل تحطيم العلاقة بين "صابر" وخطيبته, تكالبت الهجمات عليه من جهات عديدة,مسـتخدمة الرجاء تارة والتهديدات المبطنة تارة أحرى! فقد جاءه مثل هذا التهديد من قسـم الأجانب في جامعة مـوسـكـو ومن أستاذ ته المشرفة على دراسته بكلية الكيمياء, والكل يحذره ويطالبه بترك "اليمامة" فوراً, فأزداد عناداً !
لم يرتهب "صابر" من التحذيرات, فـهو أساساً لا يرغب بالزواج!,.. ومتفهم لموقف والد خطيبته , واضافة الى ذلك كان "صابر"من اكثرالطلبة الوافدين معارضة بزواج الأجنبيات,.. فكيف يرتضي لنفسه ان يحطم مستقبل فتاة احبته بعفوية من دون ان تعلم اي شيئ عن بلاده وكيف ستعيش معه في بلد مختلف حضارياً عن بلادها كل الأختلاف, ولكن ما العمل؟,..فقد تعلقت به,..والحب أعمى كما يقول المثل !
شعـر "صابر" بأنهيار ( اليمامة), فازداد تعلقه بها, ولذا لم يرغب بصدها,لأنها اصبحت اشـد تعلقاً به من الرضيع بأمه !,.. ولذا ترك الأمر للزمن فهو وحده الكفيل بحل المشاكل,.. متمنياً ان يمنحه الله القوة ليمهد لأنفصاله عنها من دون ضرراو ضرار !
شـدً صابرالرحال الى (مصـيف سـوجي),آملاً نجاح خطته وانقاذ "اليمامة" من التعلق به, لأن الحبيب هو من لا يسبب لمحبوبته أي أذاً,..وبالخصوص عند عدم تطابق العادات والميول والثقافة والعمر والهوايات,..حيث بينت التجارب فشل وانهيار المعبد على من فيه عندما تبزغ أتفه الأسباب وتعـنـد اي طرف برأيه, ثم يتصدع المعبد وينهارعلى من فيه بالضربة القاضية !
وجد "صابر" فراغاً عاطفيا ، فحاول التعرف على اي فتاة, لقتل الوحده في بلاد الغربة,ألا أنه لم يوفق, فالتي تروق له لا ينالها والتي يشـمأزمنها بسـبب سـلوكها المقـزز , تتهافت عليه كتهافت براقــش على الضوء!
مصيف سوجي على البحر الأسود
سـكـن "صابر" في (مصيف سـوجي) كمنحه من جامعة موسـكو في كل عطلة صيفية الى طلبتها الأجانب,..وفي أحـد الأيام خرج للتسـوق , وعـرج على حانوت لبيع الأغذية, راغباً في شـراء نوع معين من عصيرالعنب تشتهربه منطقة القوقاز أسمه " جُورنْي كلازا ", أي العيون السود !... وما ان دخل المخزن حتى وقعت عينه على صبية بمواصفات لم يرى مثلها البته!,.. فاهتزت لها مشاعره وهاجت الذكرى فأين الهرمان!؟ كما ورد في أغنية الجندول لعبد الوهاب!
شركسية من القفقاس
كانت البائعة كاملة الأوصـاف, أو تحفة فنية في احسن تقويم , وسبحان خالقها, فهي مهجنة من أم روسية وأب قوقازي،.. وهكذا تبسـمرت عيناه بوجهها ! وراح يحملق فيها " كالأبْلَه ",.. فابتسمت له الصبية برقة ، وسألته عن حاجته, فقال لها بلغة روسية, الشعب القوقازي:
( يا خـاجـو بوتلك ,جـورني كلازا), اي انني اريد بطل العيون السـود " فأبتسمت البائعة له
وعلى الفور, فـهمـت قصده و لـبـت طلبه وجلبت له القنينة وقالت:
" من له هذه العيون الـسـود, لـيـس بحاجة لمثل هذا المشروب ! "
فرَح "صابر" لإطرائها، وعـجت في عروقه دماء الشـباب, وتكسرت على الفورالأطواق الرهيبة التي خنقته منذ القدم ، والتي ما زال يأن منها , كأنين الرياح في البحر اللجين , على الرغم من تواجده في اجمل مناطق القوقازالمطلة على البحر الأسود!
وعلى اية حال,... تدارك صابر حاله وعاد لكياسته, وبادلها الحديث بشيء من الجرأة، تاركاً ما يخبأ له القدرللزمن!
وها هي القوقازية الخمرية الخدود والطلعة البهية تعرض على "صابر" اللقاء عندما يأتي المساء !,.. وحددت له المكان والزمان , ولبى النداء وتـم اللقاء, فأنقشعت عنه كل آلام السنين المطمورة , وأحــس بجمال الطبيعة والـبـشـر,..وردد : ما أنا ألا بشر,..عندي قلب ونظر! وصاركل شيئ من حوله له لون,.. وأنقشع الظلام الذي ساربه سنين وهو أعمى !
ان الأطناب في شـرح الحلم الجميل يفقد روعتة,..ولا اريد سـرد ما وصفه "صابر",..عن سـهرته مع "زهرة القوقاز ",.. حتى لا أتهم بالمبالغة,.. انها ليلة من ليالي ألف ليلة وليله !.. فقد اسـتنشـق فيها عبيقاً لا مثيل له,مُفعماً بالعواطف الجياشة, فـتـسامى معها,.. نحوعالماً آخر! ولكن ما من شيئ يدوم , ..فدوام الحال من المحال ,... فهدأت عواطف"صابر", او قل عاد من رحلة لما وراء الطبيعة, وادرك انه في حضرة صبية اكرمته بحنانها, و لم يرغب في التمادي الى ما هو خارج العرف في مجتمع مازال تحت الأعراف الأصيلة والتي لم تدنس لحد الآن !, وان الملحة قد تـفـسـد نقاء المودة ,... كما تفسـد قطرة السـم برميلاً من العسـل !
تحدث "صابر" والصبية في شتى المواضيع , وعللت له سبب صحة الفرد القوقاسي الى الطبيعة التي وهبها الله لهذه الأمة, وعزت طول العمرللسكان الى التغذية المعتمدة على ما تنتجه الطبيعة والرياضة التي يؤديها كل قفقازي من دون ان يدري,اذ انه يسير لمسافات طويلة ويتـسلق المرتفعات لكي يصل الى عمله او منزله,.. حيث نادراً ما تستخدم العربات في التنقل مابين شوارع المدينة الواحدة,.. وقد يعمرالفرد في هذه المنطقة لغاية 120 سـنة !...
اسـتـلطف "صابر" جلسـة السـمرمع الصبية القوقازية, ودارت بينهما أحاديثاً عن عادات المجتمع في العراق ومنطقة القوقاز, ثم سـردت لـه حدوثة سـمعتها من جدتها وقالت :
في يوم مـا زارالمنطقة سـائحاً, وفي ركن قرب احد المخازن لاحظ شـيخاً جاوزعمره التـســعـيــن سـنة وهو يبكي بمرارة,.. فتألـم السائح وتفطر قلبه من بكاء الشيخ المرير, وسأله عن سبب بكائه فقال الشـيخ وهو مسـتمراً بالنحيب :
" ضَربني والدي بالعصا",.. فأستغرب السائح ولم يصدق ما سمعه, وطلب منه ان يدله عن مكان والده ,.. فقال هو صاحب هذا المخزن المجاور !, وأشارالى المخزن , وفي الحال دخل السائح في المخزن ووجد رجلاً عجوزاً قد تجاوز المائة والعشرين سنة !,.. فتبادل معه التحية , ثم اســتفـسر عن سبب ضربه لأبنه ؟.. فأجاب ببرود : " لأنه اعتدى على جـدًه !"
حان وقت الفراق واعتذرت الصبية من "صابر", وتبادلا عبارات الوداع على أمل اللقاء ان سنحت الفرصة في مساء الـغـد, واوصلها الى مخزنها, وتوجه لسكنه, ولسان حاله يردد من شـعـر الهادي أدهم ,..وغناء سيدة الطرب العربي أم كلثوم : أغـداً ألـقـاك ؟!
شـعـر"صابر" بنوع من الأستقرارالعاطفي , وتعهد مع نفسه على عدم بناء اية علائق وثيقة مسـتقبلاً مع أي فتاة أخرى،... فقد اكتسب الآن خبرة في الصداقة بدون عناء اواية مسؤولية قد تؤثرعلى مـسيـرة دراسـته.
ولكن , ليس كلما يتمنى المرئ يدركه ,.. فما ان عاد "صابر"إلى مـقـر دراسته، حتى وجد "اليمامة" , في انتظاره عند باب غرفته في سكنه الجامعي !,.. ومن دون كلام ولا عتاب
عانقته بكل شـوق , ووجدها أكثرأنهياراً, فبصرت به وكان شـفيعه لطف الغزال وقوة الأسـد , وضمها لصدره وصارت الثوان جمرات في دمه ومـشاعراً فاقت كل ما قـرأه في القصص !
يتبع غي الحلقة/ 11 مع محبتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة التاسعة:
http://www.algardenia.com/maqalat/13202-2014-10-23-07-02-06.html
805 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع