د.عبدالرزاق محمد جعفر
أعمى في طريق مُظلم!..الحلقة التاسعة
حدس "صابر", ما الذي سيؤديه التصادم مع,ذلك المعلم الذي قام بعمل غير لائق يوم كان مديراً لثانوية الشطرة,ولذا لم يطق صبراً,.. فطلب من أخيه أن يدفع الحساب للنادل,..ومغادرة المقهى بسرعة,.. ثم لاحظ تهيؤ ذلك المعلم وجماعته, للخروج خلفهم ، فطلب صابر من اخيه الأسراع نحو سيارته متذرعاً بسوء حالته الصحية !
ومن حُستن الحظ كانت في تلك الليلة مفارزعديدة من الجنود في مناطق بغداد المهمة تطلب من كل سائق سيارة التوقف لتـفتيـشـه بدقة,.. بسبب حدوث اضطرابات في معسـكرالرشيد في تلك الليلة ،... وما أن وصلت سيارة أخ "صابر" بالقرب من احدى المفارز في ساحة التحرير, الواقعة في بداية الباب الشرقي , حتى جاءهم جندي وتفحص السيارة للتعرف عـلى الركاب,..
سـاحة التحرير في الباب الشرقي في بغداد ويظهر فيها نصب الحرية
ويفتـش هويتهم , ثم تمعن "بصابر" وأخيه وصرخ: " مًن ؟,.. ,مَنْ؟ "..أولاد الحاج موســى؟, وسرعان ما تعرف "صابر" عليه حيث كان معه في مدرسة الشطرة الابتدائية ، وطلب الجندي منهما التوجه فوراً لدارهم, لأسباب أمنية , حيث اكتشفت محاولة انقلاب في معسكر الرشيد!
***
لم يكن ارتباك "صابر" خوفاً من الأمن ,لأنه حاصل على تصريح منهم يسمح له بالسفر الى خارج العراق,.. الا ان خوفه كان من أحتمال اي شجار مع من ذلك المعلم,.. قد يـسبب تأخير طيرانه في صباح الغد ويتأجل سـفره الى الأسبوع القادم!
بيروت عاصمة لبنان
سـارت الأمور بشكل طبيعي, وفي الصباح توجه "صابر" واخيه الى المطار,..وتمت الرحلة ًعلى متن الطائرة الألمانية عن طريق بيروت,(ترانزيت) لمدة ليلة واحدة في فندق (فينيسـيا الفخم),..ومن حسن الحظ ان شاهد "صابر" قرب الأستعلامات المطرب السـوري "فريد الأطرش" وهو يستلم من العامل مفتاح غرفته, وتبادل معه التحية, والكلام عن ما حدث في العراق, وما ان اوشك فريد مغادرة المكان, ودع "صابر", وقال له : (عقبال عندنا ! ),.. وفعلاً,..بعد شهر من ثورة شباط ,.. حدثت ثورة في سوريا في 8 آذار!
المطرب فريد الأطرش
ما ان وصلت الطائرة المقلة لصابرالى مطار موسكو الدولي,حتى هرع اصدقاءه ُيلوحون له ويصرخون,.. (حيا الله صابر),حيث تسربت إشاعة بأحتمال اعتقاله, فقد كان في المطار صباح يوم 8 شباط, متوجهاً الى موسـكو, وان النظام الجديد قد اتخذ موقفاً معادياً من الدول الأشتراكية لمساندتها ثورة 14 تموز 1958, ومناصرتها للأحزاب التقدمية آنذاك.
لم يكن "صابر" معادياً للتوجه العروبي ، إلا أن وجوده كطالب في موسكو، وعلاقة موسكو الجيدة بالنظام السابق جعل بعض الناس يقذفون التهم جُزافاً على الآخرين, معتبرين كل دارس في الأتحاد السوفيتي هو " شيوعي "، وكان ذلك غير صحيح،... فالكثيرمن الطلبة الدارسين هناك بعيدين عن التيارات السياسية ولم يكن لديهم انتماء لأيّ حزب من الأحزاب ، عدا الذين هم اعضاء في الحزب قبل قدومهم الى موسكو!
وصل "صابر" الى مدينة موسكو بعد غيبة طويلة,.. وقد لمس فتوراً في علائق زميلته،.. ولما فاتحها تذرعت بطلب والدتها لوضع حدّ لعلاقتها به,... ولا بُـدً من اعلان زواجه منها فقد طالت فترة الخطوبة، وهي تخاف من أن يفوتها القطار وتصبح (عانـس), ويخفت جمالها،.. ثم يتركها ويسافر لوطنه,.. من دون وداع !!
برزت هذه المخاوف عند زميلة "صابر", وبدأ يحسها بشكل واضح كلما تقرب منها ، وهو الذي طالما أكد لها واقع حياته معها، وقد قبلت بذلك واستمرت معه وهي راضية ، فما الذي حدث بعد تغيبه شهراً واحداً؟,لا بد أن تكون قد أخلت في إخلاصها, فالمثل الشعبي في روسيا يقول : " أن المرأة كالحساء الساخن, طيباً في حينه، وإذا ما تركته فسوف يتفسخ ويفقد طعمه!
لذا بدأ "صابر" بالحذر من علائقه مع زميلته, أو قل بدأت بذرة الشَّك القاتلة للحب تنمو رويداً, وتكررالكذب وإلغاء المواعيد والبرود في اللقاء,.. وهكذا وجد "صابر" المبرر لترك تلك الفتاة التي طالما حاول تركها، والآن تم له ما أراد ,... وطِلعَتْ مِنَكْ يا جامع!
ويدور الفلك الدوار دورته = وتقدرون وتضحك الأقدارُ ,... ففي الثامن من مارت 1963، نهظ "صابر" مبكراً وتوجه نحو السوق الشعبي (الرينك),لكي يشتري " باقة من الورد " لكي يهديها إلى مدرسة اللغة الروسية، بمناسبة عيد المرأة العالمي,.. الذي يعتبرمن الأعياد المهمة بالنسبة للمرأة السوفيتية آنذاك, وبالصدفة التقى في المصعد الرئـيـس لجامعة موسكو مع طالبة روسـية في مـقـتبل العمر لفتت نظره, فأبتسم لها وسلم عليها,.. بطرف عينه وحاجبه !,.. ثم هنئها بعيد المرأة..، فردت التحية بأحسن منها, وحدس بنظراتها نحو باقـة الورد بتعجب !
شـعـر "صابر" بأعجاب تلك الصبية بباقة الورد,... فتشجع و قطف زهرة من الباقة وقدمها لها,وهو على حياءً مع كلمات التهنئة المعتادة في مثل تلك المناسبة، فشكرته الفتاة مع ابتسامة!, فتشجع "صابر" وعجًت به رياح الشباب, واقتحم حاجزالخوف الذي تغلغل في اضلعه منذ ايام الطفولة عندما كان يزجرمن اللعب اوالتحدث مع الصبايا, وهكذا جمع طاقته, وفي الحال طلب منها عنوانها !, الا انها اعتذرت بكل أدب, وتقبل عذرها, وأعلمته سبب وجودها هنا ,.. وقالت : أنها طالبة تدرس اللغة الفرنسية في قـسم اللغات هنا حتى الخامسة !
فرح "صابر" ,..لهذه النتيجة, فمن المحتمل رؤيتها كل يوم طالما هو واياها يدرسان بنفس البناية في الجامعة,..ونظراً لقرب موعد محاضرته, ودعها بكل حرارة, وكله أمل باللقاء معها مرة ثانية,.. وفعلاً, وفي اليوم التالي, يشاء القدران يـسـعده ويلتقي معها وجهاً بوجه, ويتبادلان
التحية بفرحة ,..ويتذكر سيدة الطرب وموحدة العرب أم كلثوم ويسرح معها ويردد مقطعاً:
وأذا ما ألتقينا لقاء الغرباء = لا تقل شأنا فأن الحظ شاء!,
ومن دون أن يدري ,.. سارا معاً باتجاه المصعد ، وهما يتحدثان بأحاديث عامة,..عن الصحـة والدراسـة ، وقد غمرتهما الفـرحة وشكرته بأطناب لأهدائها زهرة بمناسبة عيد المرأة العالمي ثم استفسرت منه : من اي قطرجنابكم !؟ وسيرة وافتحت !
شـعر"صابر" في هذا اللقاء المستعجل , برغبتها بتوطيد علائق معه , فطلبت منه رقم تلفونه,.. وودعدته بعجل على أمـل الأتصال به هاتفياً وفق الوقت المناسب لها !
ودعته وبودي لو يودعني = صفو الحياة على أن لا أودعه
ترسخت علائق "صابر" بهذه الصبية, ولمـس أحاسيسها به بشكل مقارب لعـشـق الفتاة المراهقة , ولم يخفي صابر اعجابه بها ,.. وهكذا وبمرورالأيام انكشف المستور, وصارت اللقاء واضح امام الجميع , وتكررت زيارتها له في الجامعة, وطابت لها الأكلات العراقية التي كان يجيد طبخها ,.. وعندما يأتي المساء,.. يخرج لأيصالها لغاية سكنها في"بروسبكـت مير", اي شـارع السـلام , والذي لا يبعد كثيراً عن جامعة موسكو.
لفتت هذه الصبية انظار بعض زملاء "صابر", وحدثه بعضهم عنها ولم يدرون انها في علاقة معمقة معه,...ثم شاعـت علاقـتة بتلك (اليمامة), وتعجب الكثيرمن العراقيين الذين يعرفون تخوفه حتى من الكلام مع اي أمرأة !,.. واستغربوا من مقدرته, وحتى هو لم يدرك والى يومنا هذا ,.. كيف تولعت به واحبته بأحساس! ..ثم راح يردد:
طول عمري بأقول ,لا أنا قد الشوق = وليالي الشوق ولا قلبي قد عذابه
وبعد ايام اتضح "لصابر" معدن تلك الفتاة , واجتازت الأختبار, واحتضنها بأخلاص مفتخراً بها امام كل معارفه, غير مبالي لكل المُثل التي كان ينصح بها غيره,... بعدم تكوين علاقة معمقة مع اي فتاة اجنبية , ولا الزواج حتى اكـتمال الدراسـة, ونـصـح من تورط بعلاقة معمقة ان يكون كالبلبل, ينقر الجيد من التمورنقرة طفيفة , ثم يترك المكان للـتـفـتـيـش عن تمرة من نخلة اخرى, وبهذا لا يـصـاب بـمـرض العـشـق,..كما قال شاعر عراقي:
ما أريد تـمـر الطوش = كـنـطـار أد ور الطوش = التمر الرديئ
لو ريدت أحمل أعدول = مـن هـل التخـور! الكنطار= أحسن أنواع التمور
الا ان "صابر" مثل " ابن الراوندي", يعلم على الصلاة وما يصلي !,.. فكم من مرة هاجم زملاء ه لمجرد تفكيرهم بالزواج من اجنبية, واذا به الآن لم يكترث لما يدور حوله مـن أحاديث المغرضين خلف الكواليس , واعطى لهم الأذن الطرشة,.. فقد هيمنت عليه تلك اليمامة واصبح اعمى سائراً بطريق مظلم , ومـرت الأيام وتكاثرت عليه السكاكين من جهات عديدة تطلب منه ترك اليمامة حتى لا يتعرض للمشاكل من والدها المتنفذ, قد تؤدي الى طرده من الجامعة وتسفيره الى بلده , حيث سيصيبه الضررمن علاقة ابنته بشاب اجنبي ,...لم يهتم صابرللتهديدات, واستمربعناده المعروف بصلادة ,.. وقال لكل معترض:" انني لن اترك أنـسـانة تعلقت بي طالما هي راضية ومقتنعة بصداقتي", واكد لهم عدم تجاوزه الخط الأحمر, .. كما انها أكدت له مـراراً بعدم الـسـماح لأي مخلوق بالأقــتـراب منها, الا بعد ان يعـقـد قرانه عليها من جهة شـرعية اوحكومية !
يتبع في الحلقة / 10 مع محبتي
للراغبن الأطلاع على الحلقة الثامنة:
http://www.algardenia.com/maqalat/13133-2014-10-18-18-54-43.html
1339 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع