عبد الله عباس
لـ ( الملك الحسن الثاني ) الملك المغربي الراحل ملاحظة مهمة لمواطنيه ، وذلك في مذكراته الشخصية التي صدرت أواسط التسعينات ، حيث ينبئهم أثناء حدوث أزمة ما وإذا أخذت هذه الأزمة حيزاً واسعاً من التحليلات والتوقعات عن نتائجها ويدعوهم إلى عدم التركيز على هذه التوقعات الإعلامية ، بل يتوقعوا حلولاً لا تقترب في كثير من الأحيان من توقعات المحللين ، ذلك لأنه يجري العمل من وراء الكواليس لحل تلك الأزمات ، ولأنه أيضاً ليتوقع المواطنون أن كثيراً من هذه الأزمات ( تصنع ) ولا تحدث تلقائياً ، وهناك الكثير من الأحيان موجبات لخلقها وكذلك لحلها ...!
وكما نعلم الآن ، أن أهل منطقتنا يعيشون مفاجآت ظهور قوي لـ ( داعش ) وبشكل غير متوقع حتى لبعض أصحاب القرار ، وبدأت تحليلات الترهيب من بعضها ‘ والآخر يدعو للاطمئنان مع وجود حقيقة أخرى يعرفها خبراء الإعلام ، أن نشر كثير من الأنباء والمعلومات عن هكذا أحداث غير صحيحة ، وهناك أهداف خاصة وراء تسريبها ونشرها ، منها : ( تضليل ، أو تمهيد لحدوث عكس ما أعلن ، أو بهدف قياس رد فعل أهل الشارع المعنيين بالأزمة ......إلخ ) .
في بداية الإعلان عن الظهور الرهيب لـ ( داعش ) ، أعلنت الإدارة الأمريكية أكثر من مرة بأنها ليس لديها إستراتيجية لمحاربة هذا التنظيم ! ولكن من يعرف أساليب تلك الإدارة يعرف أن ذلك الإعلان ليس إلا تضليل ؛ لأن هناك ولدى الكثير من الخبراء أكثر من دليل يؤكد بأن هذه الإدارة ( كذلك كل الإدارات الأمريكية وعبر تأريخ ظهور قوتها على مستوى العالم ، ومن أجل مواجهة الازمات من النوع الذي خلقتها داعش ، أنها تتوجه إلى العمل من أجل ترويض الأزمة وإدخالها في إطار ينسجم مع سياستها الخارجية ) حيث لم تحصل أن خططت أو توجهت هذه الإدارة إلى اختيار سياستها الخارجية منسجمة مع حدوث الأزمات ..!!! وخلال فترة العمل تلك الإدارة وبأساليبها المعروفة لتدخل فيما يحصل في المنطقة بسبب تصرفات داعش ، رأى أهل المنطقة أنفسهم في حالة ذهول ، حيث لا علم لهم كيف وبأي طريقة كسح داعش كل هذه المساحات وتمدد وأرعب الآخرين ؟ دون أن يعلموا أيضاً ( أن الراعي والمشجع لبناء الحرية والديمقراطية في المنطقة ) أي الإدارة الأمريكية التي تعمل في الظلام من أجل ترويض تحركات كل ما يجرى بحيث ينسجم مع الثوابت في سياساتها الخارجية ....! عند ذلك صاحت أمريكا : يا ناس أن داعش خطر للدين والدنيا لكل البشرية ، والمطلوب تأسيس تحالف قوي لمحاربتها ، ورأينا عندها أيضاً أن من قدم أول خدمة ليظهر داعش يسارع لحجز مقعد له تحت خيمة ( التحالف الدولي لمحاربة داعش ) .
كما أشرنا في موضوع آخر : بسبب عدم وجود الإرادة الوطنية ( جدية وبالمفهوم الجدي لمعنى الوطنية ) في كثير من بلدان الشرق الأوسط مع الأسف ، وبعكس الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا ، والذين قاموا بجمع قواهم بعد الحرب العالمية الثانية ، وفي مواجهة الغرب لم يقبلوا أن يكونوا ( تابعين ) بل اختاروا التوجه نحو الأمام في كل المجالات دون استشارات من خارج إراداتهم الوطنية حتى أصبحوا من عمالقة الاقتصاد في العالم .
إن أمريكا وحلفائها الغربيون يتصرفون حسب هذا الواقع المؤسف مع الشرق الأوسط ، وإذا ظهرت أية أزمة أو انعطاف حاد نحو التغيير فإنهم لا يتخذوا أي موقف في ضوء تلك الأزمات أو التحولات ، بل كما أشرنا يتوجهون أولاً باتجاه تحريك كل قواهم المعلوماتية والإستخبارية إلى أن يصلوا لمرحلة العمل المباشر بهدف تغيير اتجاهات أحداث الأزمة أو حركة التغيير بشكل ينسجم مع توجهاتهم السياسية الثابتة تجاه المنطقة وأهلها !
إنهم ومنذ يوم تنفيذ معاهدة ( سايكس بيكو) ينظرون هكذا إلى المنطقة على أنها مصدر التخلف! معتبرين أنفسهم مسؤولين عن تحويل هذا التخلف إلى تطوير مبرمج وإشراف على كل التغييرات الضرورية فيها مع الاستعداد الدائم لمواجهة أي خطر أو ظهور أي بادرة تهدد مصالحهم ، ولهذا لهم مخططات جاهزة ويعتبرون أن كل تعويض عن كل تصرف من هذا النوع يكون كلفته مضمونة وعلى حساب أهل المنطقة ، كما هو الآن يعتبرون أن الاستغلال والتدخل بحجة محاربة داعش ضمانة للكلفة المطلوبة لترميم الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة في أمريكا وعند حلفائها ، وذلك عن طريق بيع الأسلحة والنفط بطريقتين التجارية المعلنة وحتى عن طريق المافيا ... في ضوء قراءتنا المتواضعة هذه : أن سبب اهتمام الإدارة الأمريكية وحلفائها بمسألة داعش وضرورة محاربتها يقابلها ضمانات إضافية لاستمرار نهب المنطقة وأهلها وترسيخ أكثر للهيمنة .
في ضوء هذه الملاحظات : نريد أن نتحدث عن قراءة بعض المحللين والكتاب عندنا بوجهتي النظر الكردي والعربي ، نرى مع الأسف أن القراءة عند الكرد تأتي من باب التمني ، وينظرون إلى المشهد بمنظار العاطفة وليس الواقع ، والقراءة العربية تدخل في إطار البكاء على الأطلال ، والخوف من إدامة المشهد ، وعدم وجود رؤيا لمستقبل مشرق !
وعندما نطلع على القراءة الكردية نرى أنهم يعتقدون بأن ما يحدث سيؤدي إلى إلغاء معاهدة ( سايكس بيكو ) ويتم رسم خارطة جديدة للمنطقة ، ويؤشرون بأن ظهور ( كيان كوردستاني مستقل ) سيكون أحد نتائج هذه الخارطة ، إن هذا وكأمنية ( أمل وهدف ) ليس فقط لأهل إقليمنا ، بل هي أمنية كل منتمي للقومية الكردية في أجزاء كردستان المقسمة إلى أربعة أقسام ، وهي أمنية مشروعة دون شك ، ولكننا لا ندري من أين جاء التفاؤل في ضوء ما يحدث من الأحداث التي تجري بسرعة غريبة ، بحيث لا تعطي فرصة لتقييم ما حدث بالأمس وما نتوقع أن يحدث غداً ، أو معتمدين على أي عهد موثوق من قوى متصارعة ومتنفذة ومؤثرة في الساحة ؟
من المعلوم أن معاهدة سايكس بيكو : معاهدة استعمارية بضد من طموح شعوب المنطقة تمت بين القوى العظمى بشكل سري ، وكان نتيجتها الخاسر الأول هما القوميتين الكردية والعربية ، حيث وعدتهم تلك القوى أنهم يحصلون على حق تقرير المصير لقاء تعاونهم في الحرب ضد الرجل العجوز ( الإمبراطورية العثمانية ) ، ولكن ما حصل هو اتفاق القوتين الاستعماريتين الانكليزية والفرنسية على تقسيم الأراضي ( الهلال الخصيب ) بينهم وحسب مصلحتهم الاستعمارية !
على أية حال ، لو لم تحصل ثورة اكتوبر حيث كشف قادتها سر معاهدة سايكس بيكو لتم تنفيذ المعاهدة دون رد فعل يذكر ، ولكن عندما اكتشفوا حقيقتها قاموا بعدد من الاجتماعات أدت إلى بعض التغييرات الشكلية في المعاهدة دون جوهرها ( تقسيم المنطقة ) مما أدى إلى تقسيم الكرد ( أرضاً وشعباً ) إلى أربعة أجزاء بين إيران والعراق وسوريا وتركيا ، وتم تقسيم العرب إلى عدد من الدول بعكس طموحهم في انتفاضتهم ضد الإمبراطورية العثمانية التي سميت بـ ( ثورة العرب الكبرى ) لتأسيس دولة تجمع كل العرب فيها ، وبقدر تعلق هذه المعاهدة بأمريكا ومن اليوم الذي أصبحت فيها قوة شريكة في الهيمنة على المنطقة ، ليس هناك أية إشارة تظهر اهتمامها بجوهر هذه المعاهدة لعدم تعارضها مع ما تطمحه من اختيارات لتعميق توجهاتها في زرع أسس ثابتة لضمان تلك الطموحات في أن تكون في مقدمة المهيمنين الغربيين في المنطقة ، إلى أن جاءت أول إشارة أمريكية بتلك المعاهدة على لسان أمكر سياسي في الإدارة الأمريكية ( كسنجر ) عندما كان مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي نيكسون ، عندما تحول أول انتصار للعرب على إسرائيل عام 1973 عن طريق ( ثغرت دفرسوار ) إلى انتكاسة جديدة بتواطؤ ( أنور السادات ) كما ظهر ذلك بعد مرور سنين في كثير من الوثائق ، عندها قال كسنجر قولته المشهورة : ( إن إسرائيل أثبتت بأنها أقوى دولة إقليمية في المنطقة ، عليه جاء الوقت أن تكون أكبر جغرافياً ، وأن معاهدة سايكس بيكو بحاجة إلى إعادة نظر ...!! ) ومنذ ذلك اليوم توجهت أقلام كثير من المحللين العرب القوميين إلى طرح أفكار لا تؤدي إلا إلى الإحباط بين الناس ، والغريب أن بعض السياسيين في مواقع المسؤولية يكرر نفس طروحات هؤلاء المحللين بدل أن يوجهوا للعمل الجمعي بينهم لكي يؤدى إلى عمل منظم لمواجهة الأخطار ، وكنا نقرأ ( ولا يزال ) بين تلك الطروحات ، حيث لا ينسى كتّابها التحذير والتحريض ضد الكرد الضحية مثل العرب نتيجة المعاهدة المذكورة ، رغم ذلك يحذرون بأن الاستعمار الجديد يعمل باتجاه إيجاد ( إسرائيل جديد في كردستان !) وفي الجانب الكردي أيضاً رأينا ( ولا يزال ) عدد غير قليل من المحللين يأخذون بعض التصريحات أو إعلان موقف مجاملة من الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً محمل الجد فيكتبون بتفاؤل مبالغ فيه مبالغة واضحة ، وهو مبدأ ( الأمنية ) وليس مبدأ الاعتماد على الحقائق وقراءة ما حولنا بموضوعية ، حيث أنهم يحركوا المشاعر فقط دون طرح ما يؤكد تفاؤلهم بأية أدلة عملية أو وثيقة تجعل لهذا التفاؤل مستند على موضوعية ؛ لأنه من الواضح أن تعامل الغرب مع طموحات القومية الكردية المشروعة ليس أقل بشاعة مما فعلوه مع القومية العربية ، حيث بدل مساعدتهم لتحقيق هدفهم في الوحدة صنعت لهم حاجزاً عدوانياً جاء بكل الشر لأهل هذه المنطقة ولا تزال مستمرة .
هنا نحن نرى أن غض النظر عن التحليل الدقيق للهدف الأساسي للإدارة الأمريكية و حلفائها الغربيين هو ( ترويض كل القوى وحركاتها أو أية محاولة باتجاه تغيير وتوعية الناس في هذه المنطقة خدمةً لسياستهم طويلة الأمد ، ومنع أي نهضة لصالح الاستقلالية الحقيقية لشعوبها ، فما كان كل تآمرهم الذي أدى إلى تحويل ما سمي بالربيع العربي إلى خريف دائم المليء بالفوضى إلا دليلاً على هذه الحقيقة ..!)
إذاً ، المطلوب هو قراءة المشهد كالآتي : ( إن سايكس بيكو والتفكير بتبديلها أو إجراء تغييرات فيها سيكون دائماً عند أمريكا والغرب باتجاه دعم وتعميق الثوابت من أهدافهم و يزيد من عدد الدكاكين – وليس قوى وإرادات – لكي يسهل تحريك جميعهم لنشر المزيد من الفوضى والتخلف والتراجع للخلف وليس التقدم إلى أمام ، وليس تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية وما سميت بالصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة والعمل الدقيق والمتقن تمهيداً لبدء صراع طويل الأمد تحت عنوان (الصراع العربي الإيراني) أو الصراع بين الإسلام السني والإسلام الشيعي !! إلا دليلاً على إعادة إنتاج سايكس بيكو وليس تغييرها لصالح تقوية دور الإرادات الوطنية في المنطقة ، بحيث يكون طريق مفتوح أمامهم لمعالجة مشاكلهم بأنفسهم ولصالح استقلالهم الوطني ، وإذا انتصرت أمريكا وحلفائها الغربيين في هذه الإستراتيجية فإن الخطر سيكون في وصول معركة سايكس بيكو إلى تركيا وإيران ....!!! وأن القيادات التركية والإيرانية واعين لهذه الحقيقة .
خلاصة القول : إلى أن يأتي اليوم الذي نرى فيه ظهور القوى للإرادات التي تعمل بجد ليكونوا هم أصحاب القرار المصيري لمنطقتهم ونمو قدرات شعوبهم ، ويتخلون عن سياسة الاعتماد على الغير خارج إراداتهم الوطنية ، وإذا حصل هذا ( إن شاء الله ) سيكون دفن سايكس بيكو وما جاءت به من المآسي والشر بيدهم ) .
1208 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع