د.علي محمد فخرو
في محنة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه مع الخوارج عبرة لمن يعتبر إن قبول الإمام علي بالتحكيم الشهير فيما بين حقه الشرعي في الخلافة وبين باطل معاوية بن أبي سفيان كان من المؤكد قرارا سياسيا قابلا للأخذ والعطاء، وللترحيب به أو نقده ورفضه، لكن حماقة الخوارج وضيق أفقهم الديني والسياسي ومبالغتهم في الإدعاء لأنفسهم بامتلاك الطهارة الدينية أدى إلى شق صفوف معسكر الإمام علي وإضعافه وبالتالي فتح الطريق أمام إنتصار المعسكر الأموي وإدخال العرب في دائرة الملك العضوض إلى يومنا هذا.
هذا العقل الخوارجي المغرور المتزمت لم يكتف بممارسة لعبة الإختلاف الإنتهازي في السياسة والمبالغة فيها إلى حد التهجم على شخص الإمام والتشكيك في نقاء إيمانه، وهو الطاهر العف الشريف الذي أعطى للدين الجديد كل ذرة من جهده وروحه وفكره، وإنما أيضا وبعنجهية أصر أصحاب هذا العقل على أنه لا مكان في الساحة السياسية العربية آنذاك إلا لشعار واحد فقط وهو «لا حكم إلا لله».
وهو طرح دعائي إقصائي رد عليه الإمام علي بقولته الشهيرة الخالدة: «كلمة حق يراد بها باطل، وإنما مذهبهم ألا يكون أمير، برا كان أو فاجرا»، أي المذهب السياسي الفوضوي العدمي الذي لا دخل له بالدين، والذي باغتياله المجرم للإمام أنهى الحقبة الراشدية الواعدة بأن تتطور تدريجيا إلى نظام حكم معقول ومتوازن.
بل إن الخوارج، بعقلهم السياسي المتشنج العدمي، أضاعوا بعد سنوات فرصة أخرى لإرجاع المسار الراشدي الشوري في حكم بلاد الإسلام عندما ساهموا بغوغائية وقلة ذوق في منع عبدالله بن الزبير من انتزاع الخلافة من يد الأمويين بعد وفاة يزيد بن معاوية.
نحن هنا أمام مدرستين: مدرسة قائمة على مبادئ دينية وأخلاقية وسياسية سامية، لكن ضمير أصحابها لا يقبل استعمال تلك المبادئ لتدمير الأوطان وتفتيت المجتمعات، إنها مدرسة الإمام علي كرم الله وجهه. تقابلها مدرسة الجنون الخوارجي التي، بسبب إنغماسها في لعبة الهوس العقائدي، لا يهمها مصير الأمة ولا التعامل مع الواقع وتعقيداته، وهي في معركة التخريف العقائدي على استعداد لإماتة الألوف من أتباعها وتفريخ الفرق التي تتبارى في الجنون والدموية فيما بينها.
بعد سنين وكثير من التضحيات إنتهى وجود كل الفرق الخوارجية بمسمياتها وأتباعها، لكن مدرستها الفكرية القائمة على ممارسة «كلمة الحق التي يراد بها باطل» بقيت في المجتمعات العربية.
بل إنها في السنوات الأخيرة قد طورت أساليبها وأقنعتها، فما عادت فقط في شكل جيوش وعصابات محاربة، كما هي الحال مع داعش والنصرة وأخواتهما، وإنما أصبحت متجذرة في حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية. لنحاول إبراز أمثلة من تلك الممارسات.
لقد كان النقد الموجه لنظام الحكم السابق في العراق ووجوب استبداله بنظام ديموقراطي كلمة حق مؤكدة، لكن الأيام أظهرت أن خوارج العراق، ومعهم أنصارهم من الأميركيين والأوروبيين وبعض العرب والمسلمين، رفعوها كلمة حق يراد بها باطل. كان المطلوب قيام حكم طائفي إقصائي فاسد ونهبا استعماريا لثروة العراق البترولية وتقسيما انهك العراق وهيأه لقيام الجنون الداعشي.
لقد كان الحكم في ليبيا استبداديا فاسدا يجب أن ينتهي، لكن خوارج حلف الناتو وأتباعه أخفوا وراء كلمة الحق تلك باطلا هدفه استباحة أخرى للثروة النفطية وتهيئة لإدخال ليبيا في صراعات دموية قبلية ودينية وعرقية تجعلها دولة فاشلة.
لقد كان نظام الحكم في سورية ديكتاتوريا وطائفيا وجب أن يحل محله نظام حكم ديموقراطي. لكن ما إن تحركت الجماهير بعفوية سلمية مطالبة باصلاحه حتى دس خوارج العرب والخارج أنوفهم وجيشوا الجهاديين التكفيريين الارهابيين من كل بقاع العالم، وأمدوهم بالمال والسلاح والمساندة السياسية. وبينت الأيام أن شعارات الحق الديموقراطية أريد بها باطل تدمير المقاومة العربية ضد الصهيونية في كل مكان، وتدمير دولة عربية محورية.
في مصر كانت فترة حكم جماعة الأخوان المسلمين القصيرة مليئة بالأخطاء والخطايا وكان شعب مصر مهيئا لإسناد قوى مدنية أخرى تنقل مصر من الحكم الاستبدادي السابق لثورة بناير إلى حكم ديموقراطي معقول، لكن قوى خوارجية مضادة للثورة أرادت من وراء صيحة الحق تجاه حكم الاخوان باطل الأخطاء والخطايا التي تعيشها الآن الساحة المصرية المنهكة المليئة بالنيران المشتعلة في ألف مكان ومكان.
واليوم يقوم حلف دولي لإيقاف جنون داعش وأخواتها في العراق وسورية، لكن الدلائل تشير إلى أن وراء ذلك الحق باطل التمهيد لعودة جيوش الاستعمار وتقوية قبضته على كل ثروات ومقدرات الحياة العربية، وتدمير قطرين عربيين أساسيين تمهيدا لحصار مصر وإضعافها في ساحة الصراع العربي - الصهيوني، ومن ثم إدخال هذه الأمة في سنين طويلة من الظلام والضعف وحياة البؤس.
لايسمح المجال لذكر عشرات الأمثلة لاستعمالات انتهازية لمطالب ديموقراطية وحقوقية وثقافية في صور شعارات حق يراد بها في الحقيقة باطل امتيازات قبلية أو عائلية أو طائفية أو دينية أو حتى اقتصادية نفعية.
كلمات الإمام علي الخالدة يجب أن تصبح مقياسا ومعيارا نعلمه لشباب الربيع العربي لاستعماله عند تقييمهم لكل نشاط سياسي عربي وأجنبي، إذ ان روح الخوارج مازالت ترفرف في سماء العرب.
1332 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع