د.هالة مصطفى
أدرك أوباما متأخرا مع اقتراب نهاية ولايته الثانية أن سياسته المترددة فى الشرق الأوسط، أفضت إلى الكثير من الحسابات الخاطئة،
وأسفرت فى النهاية عن فوضى مدمرة ومزيد من الصراعات والحروب الأهلية والطائفية وما صاحبها من عنف مسلح وانتشار للتنظيمات الارهابية، بدءا من القاعدة مرورا بجبهة النصرة، وانتهاء بداعش (تنظيم الدولة الاسلامية المتطرف فى العراق والشام) والذى يعد أسوأ صور الارهاب المعاصر بما اقترفه من أعمال قتل وذبح وترويع طالت الجميع مسلمين ومسيحيين وأقليات من أصول متعددة تحت زعم اقامة «دولة الخلافة» أو تطبيق الشريعة، وغيرها من الشعارات التى بات من المعتاد سماعها من كل من طمع فى انتزاع سلطة أو الاستيلاء على أرض، أو حصار شعب، أو مصادرة وطن وقتل مواطنيه .
من هنا أعلن الرئيس الأمريكى الحرب على «داعش» بعد ما استولى تنظيمها على مساحات واسعة من الأراضى العراقية والسورية، استعداداَ للتقدم نحو الخليج ثم إيران (او بلاد فارس كما يسميها) وصولا لروما رمز العالم المسيحى وفق خططه المزعومة. وفى هذا السياق جاءت دعوة أوباما لتشكيل تحالف دولى وإقليمى واسع يضم دولا أوروبية على رأسها فرنسا وبريطانيا، عربية فى مقدمتها السعودية، وشرق أوسطية تمثلها تركيا . ولهذا الغرض عُقد مؤتمرا جدة وباريس استعدادا للمواجهة العسكرية القادمة التى تستلزم جهودا مشتركة سواء على مستوى التسهيلات اللوجيستية (توفير الأراضى أو الأجواء التى تشن من خلالها الضربات العسكرية) أو تبادل المعلومات المخابراتية، وغيرها من مستويات مشابهة لاغنى عنها .
فهذا النوع من الحروب التى تسمى بـ «الحرب على الارهاب» ليس من قبيل الحروب التقليدية التى تكون بين دول و جيوش نظامية وتكون نتيجتها محسومة بين منتصر أو مهزوم، ولكنها حرب غير محددة المعالم، والتفوق العسكرى الهائل لدولة أو لمجموعة من الدول لا يضمن وحده حسم الحرب أو الانتصار فيها. فالحرب على داعش ليست مثل حالة غزو العراق التى انتهت بإسقاط النظام وتفكيك الدولة، وليست كحالة ليبيا أيضا التى تكرر فيها نفس السيناريو وإن كان من خلال حلف الناتو. وبالقطع هى ليست كمثال الحروب العالمية التى احتشدت فيها دول ضد بعضها البعض .
إن تنظيم داعش ليس دولة محددة المعالم ولا يتركز فى منطقة واحدة، وإنما هو تنظيم متشعب يصعب تحديد أماكن تواجده بصورة دقيقة كى يتم القضاء عليه بضربة عسكرية حاسمة، وهذا النمط من التنظيمات الارهابية التى تُسمى نفسها بـ «التنظيمات العابرة للقومية» أى التى ليس لها وطن محدد مثل تنظيم القاعدة و طالبان و الجهاد الاسلامى، تعتقد أن حدودها هى العالم نفسه تتمدد فيه كيفما تشاء. وهذا هو أول تحديات الحرب على داعش، ولذلك لم تكن صدفة أن يحدد لها الرئيس الأمريكى مدى زمنى يقترب من الثلاث سنوات ، فهى إن جاز التعبير « حرب مفتوحة».
وثانى هذه التحديات يتعلق بالأيديولوجيات التكفيرية المتطرفة التى تتبناها مثل تلك الجماعات والتنظيمات، والتى توفر لها غطاء يسمح لها بالتوغل في.. المجتمعات الاسلامية و تجنيد الأنصار والأعضاء خاصة من الشباب، مستغله كل وسائل الدعاية الحديثة (شبكات التواصل الاجتماعى) لنشر أفكارها ومعتقداتها ، أو الوسائل التقليدية كالمساجد والزوايا والدعوة والخطابة، وبدون مواجهة فكرية جادة فلن تفلح المواجهة العسكرية وحدها فى القضاء عليها أى أنها «حرب أفكار» أيضا .
وثالث هذه التحديات يتعلق بمفهوم الارهاب وتعريفه وهى إشكالية مازالت قائمة سواء بين العالمين الغربى والاسلامى، أو بين أطراف العالم الاسلامى نفسه . فالغرب - خاصة الولايات المتحدة - تعتمد تصنيفا انتقائيا للتنظيمات الارهابية، فهى على سبيل المثال تعتبر حركة حماس (فرع جماعة الاخوان فى فلسطين) تنظيما إرهابيا لأسباب تتعلق بأمن إسرائيل ، بينما لا تعتبر الاصل أى الجماعة ذاتها كذلك ، فلا تصنفها نفس التصنيف. وبنفس المنطق تعتمده الدول الاسلامية الموزعة الآن بين سنة وشيعة بتصنيفات تختلف عن بعضها البعض . وهذا هو رابع هذه التحديات وأخطرها.
فهناك تناقضات لا يمكن تجاهلها بين توجهات ومصالح دول الإقليم تنعكس بقوة على مواقفها من مثل تلك التنظيمات الارهابية. وتكفى المقارنة بين مواقف كل من السعودية ومصر وتركيا وقطر وايران ليتضح حجم الخلافات فى الرؤى والتوجهات. فتركيا كمثال تدخل حلف المواجهة مع داعش ولكنها تدعم جماعة الاخوان التى خرجت من عباءتها الأفكار التكفيرية أو «القطبية» نسبة إلى منظرها الأشهر سيد قطب والتى تتبناها أغلب جماعات العنف على العكس تماما من موقف مصر، بل والمعروف أيضا أن دولا إقليمية مهمة باتت تدعم و تسلح هذه الجماعات لتحقيق مكاسب سياسية وتقوية نفوذها ضد الدول المنافسة لها . ولذلك ظهرت العشرات من التنظيمات الارهابية أو الميلشيات المسلحة السنية والشيعية والتى تمتد على طول الخريطة من المشرق العربى إلى مغربه، فكل جماعة أو ميلشيا من هذه الميلشيات تدعمها دولة من الدول سواء بمفردها أو بالتحالف مع دولة اقليمية أخرى، أو مدعومة بقوة دولية. ولا يبدو أن الغرض من استخدام مثل تلك التنظيمات قد انتهى، فالصراعات على الثروة والنفوذ والمكانة الاقليمية مازالت مشتعلة، والأرجح أنها ستظل كذلك لفترة قادمة، وهو ما قد يجعل تحالف الحرب على داعش تحالفا هشاً .
إن البيئة السياسية فى الشرق الأوسط مازالت غير مواتية لمواجهة شاملة ضد الارهاب، وربما كانت كذلك منذ اليوم الأول لاعلان هذه الحرب أى بعد الحادى عشر من سبتمبر 2011، ثم بعد غزو العراق 2003 الذى تم تحت نفس الشعار أى محاربة الارهاب ، والذى لم يُنتج سوى ساحة طائفية متعصبة مليئة بالصراعات. وفى نفس السياق جاءت حقبة الربيع العربى التى تزامنت مع خروج القوات الأمريكية من العراق 2011 لتزيد من حدة هذه الصراعات لا أن تنهيها، بعد أن انهارت أغلب الدول التى اجتاحتها تلك الثورات، و سعت التنظيمات الارهابية فى المقابل لأن تملأ الفراغ الذى خلفه انهيار «الدولة» .
أخيرا فإن حرب أمريكا على داعش ستوظف من أجل استكمال استراتيجيتها فى الشرق الأوسط التى تهدف إلى تغيير كثير من الأنظمة القائمة وإعادة رسم خريطة المنطقة ككل، مثلما حدث بشكل مباشر فى العراق وليبيا، وغير مباشر فى دول أخرى. والمؤشرات تشير إلى أن الدور القادم سيكون من نصيب سوريا وهى مواجهة مؤجلة، ولذلك فإن حربها على داعش ستتضمن فى جزء منها دعم المعارضة السورية وتسليحها، وملاحقة هذا التنظيم على أراضيها، مما سيدخلها فى مواجهة مباشرة مع النظام السورى أى أنها حرب مزدوجة. وهنا ستدخل روسيا وإيران الداعمتان لنظام بشار فى معادلة تلك الحرب.
862 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع